التعددية في الهند بين واقع التحدي وقبول الآخر

د. ظفرالإسلام خان

“التعددية” تعنى قبول الآخر دينيا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا ، وهى تعنى التعايش السلمي بين مختلف الطوائف الدينية والأجناس والأعراق التى تعيش فى كنف الوطن الواحد والعالم أجمع. ونادرا ما يوجد بلد فى العالم الآن، وخصوصا بعد الأوضاع التى سادت العالم عقب الحرب العالمية الثانية، يخلو من طوائف وأجناس متباينة. وقد كثرت الهجرات فى الحقب الأخيرة من دول إلى أخرى لدرجة أنه من النادر ألّا يوجد الآن فى أي بلد أناس ليسوا من أهل البلد الأصليين القدامى. ولذلك يؤكد ميثاق الأمم المتحدة ، الذى وافقت عليه كل الدول الأعضاء بالمنظمة الدولية، على ضرورة التعايش السلمي واحترام الأديان والثقافات واللغات والأقليات الدينية والثقافية واللغوية والعرقية ونبذ حل الخلافات بالوسائل غيرالسلمية.

وتؤكد دساتير الغالبية العظمى من الدول فى أنحاء العالم على هذه المبادئ ومنها دولة الهند التى ينص دستورها على تنشيط الوئام الطائفي وقبول التعددية من خلال تبنى العلمانية واحترام كل الأديان والثقافات والأعراق والاعتراف بكل اللغات التى يتحدث بها أى جزء مهم من السكان. فالهند تعترف رسميا بست مجموعات كأقليات دينية وهى الطوائف المسلمة والمسيحية والسيخية والبوذية والجينية والبارسية (الزرادشتية). وقد أنشأت الهند مفوضية قومية ومفوضيات على مستوى الولايات لحماية حقوق هذه الأقليات الستة سنة 1992 وهى مؤسسات ربما لايوجد لها نظير فى أى بلد آخر. كما تعترف الهند رسميا بـ (22) لغة من اللغات الكبيرة المستخدمة فى مختلف أنحاء الهند التى تم تنظيمها وتقسيمها عقب الاستقلال على أساس لغوي.

 

قبول الآخر سمة من سمات التاريخ الهندي

استمر المجتمع الهندي يقبل الآخر ويحترمه على مدار التاريخ ولذلك لجأت إلى الهند مختلف الطوائف الأجنبية مثل اليهود بعد تشريدهم من فلسطين فى القرن الأول الميلادي ، وأتباع الديانات المسيحية الشرقية ، والزرادشت (المعروف باسم البارسيين أى الفرس) الذين فروا إلى الهند فى أعقاب الفتح الإسلامي لإيران. وتوجد بالهند بقايا عرب الجاهلية المشركين الذين فروا من الجزيرة العربية عقب فتح مكة. وكل هؤلاء قد اندمجوا فى المجتمع الهندي مع الاحتفاظ بكثير من خصائصهم ولغاتهم وتقاليدهم وأديانهم . وقد احتضنتهم الهند لأنها هى الأخرى تتكون من آلاف من الديانات الفرعية التى تندرج عموما تحت مسمى “الهندوسية” مع احتفاظ كل الفروع بعقائدها وكتبها معابدها ومرجعياتها الدينية المختلفة وإيمان الثقافة الهندية منذ القدم بأن “البشرية كلها عائلة واحدة” .

وهذا لايعنى أن الأوضاع الحالية فى الهند تطابق تماما هذا التراث القديم أو تتمشى مع روح التوجهات العلمانية التى حاول الدستور الهندي ترسيخها. ولم يعرف التاريخ الهندي عداء أو مواجهة دينية بين المسلمين والهندوس إلى أن جاء الإنجليز فى القرن الثامن عشر وأخذوا يغزون ويسيطرون على مناطق الهند رويدا رويدا ثم بدأوا يفرضون لغتهم وثقافتهم بل وحتى ديانتهم المسيحية البروتستانتية. وهنا ثار المسلمون والهندوس معا ضد الحكم الإنجليزي الاستعماري سنة 1857.

 

الإنجليز يزرعون بذور الخلاف

وتمكن الإنجليز بمختلف الحيل ونتيجة خيانة بعد الحكام المحليين من إفشال تلك الثورة الشعبية العارمة التى تمكنت فى أشهرها الأولى من تحرير مناطق كثيرة من براثن المستعمر. وبعد أن تحقق للإنجليز إخماد الثورة الهندية سنة 1857 ، انتهجوا سياسة “فرِّق تسد” ، فاخترعوا تاريخا جديدا للهند يدعى أن الحكام المسلمين ظلموا الهندوس وأجبروا ملايين منهم على اعتناق الإسلام بقوة السيف. وأدخل الإنجليز هذه الكتب المفبركة إلى مناهج التدريس، واخترعوا لغة جديدة قالوا أنها لغة الهندوس، وشجعوا كلا من الهندوس والمسلمين على تكوين جمعيات ومنظمات مناهضة للآخر.

وهكذا رويدا رويدا نشبت وترعرعت الخلافات بين المسلمين والهندوس وظهرت منظمات كثيرة ، هندوسية ومسلمة، بتشجيع خفى من الإنجليز، لتوسيع الهوة بين الطائفتين الكبيرتين. وانتهت هذه السياسة إلى تقسيم الهند إلى دولتى الهند وباكستان سنة 1947. وبينما قالت باكستان أنها دولة “إسلامية” ، أصرت الهند على تبنى العلمانية ووضعت دستورها على أساس حرية الأديان والمساواة بين كل مواطنى الهند واحترام معتقداتهم وثقافاتهم ولغاتهم…

 

مطالبة بتكوين دولة هندوسية

ظلت المنظمات الهندوسية ، التى قامت خلال العهد الإنجليزي ، تطالب بأن تكون الأفضلية فى الهند للهندوس وللغتهم (الهندية) ولتقاليدهم وثقافتهم. وكانت هناك منظمات هندوسية عديدة تتبنى هذا التوجه إلا أن منظمة راشتريا سوايام سيفاك سانغ (المعروفة بأحرفها الأولى الآر.إيس. إيس.) تصدرت هذه الحملة وكونت لها مئات من المنظمات الفرعية من ثقافية وسياسية وإعلامية ودينية وتعليمية الخ. وهى لم تستطع إحراز تقدم كبير فى العقود الأولى بعد الاستقلال بينما بقى الرعيل الأول لمناضلى الحرية من أمثال رئيس الوزراء جواهر لال نهرو فى سدة الحكم. إلا أن أسهم الآر. إيس. إيس. أخذت ترتفع مع ضعف حزب المؤتمر الهندي فى منتصف سبعينيات القرن الماضى وأخذ حزب بهارتيا جاناتا (حزب الشعب الهندي) التابع للآر. إيس. إيس. يتقدم رويدا رويدا وخصوصا بعد أن تبنى قضية بناء معبد راما على أنقاض المسجد البابري فى منتصف الثمانينيات. وتمكن غوغاء الهندوس من هدم المسجد البابري فى ديسمبر1992 فارتفعت أسهم حزب الشعب الهندي حتى وصل إلى سدّة الحكم بعد الفوز فى انتخابات 1999 على رأس تحالف من عدة أحزاب مما كبّل حريتها لتنفيذ الأجندة الهندوسية. ودام حكم حزب الشعب الهندي إلى سنة 2004. وعاد الحزب للمرة الثانية إلى الحكم عقب فوزه فى الانتخابات العامة التى أجريت سنة 2014 بقيادة ناريندار مودى الذى كان سابقا كبير وزراء ولاية كوجرات حيث قام غلاة الهندوس بمذابح المسلمين فى فبراير سنة 2002.

 

حكومة مودى تنفذ خطط الحركة الهندوسية

وقد سمحت الحكومة الجديدة برئاسة ناريندار مودى لغلاة الهندوس بتدبير الاضطرابات الطائفية وقتل مئات من المسلمين على أيدى ميليشيات هندوسية فى الطرق والشوارع بحجة تناول الضحايا لحم البقر أو ذبحهم البقر أو بتهمة تشجيعهم الهندوس على اعتناق الإسلام أو تزوج مسلم بإمرأة هندوسية الخ. وقد كثرت هذه الاعتداءات خلال حكومة مودى ولكنها ماعدا تنديد شفهي خفيف فى بعض الأحيان لاتتخذ الإجراءات القانونية المطلوبة فى مثل هذه الجرائم. وأيضا أطلقت هذه الحكومة العنان للمنظمات الهندوسية لنشر الدعايات المضللة الكاذبة ضد المسلمين ومطالبة قتلهم أو تهجيرهم إلى باكستان. وانضم إلى هذه الحملات جزء لابأس به من الإعلام الهندي من صحف وقنوات ويبحث هذا القسم من الإعلام عن أية فرصة للهجوم على المسلمين واتهامهم بانتهاك جرائم وهمية والعمل لغير مصلحة الهند. وتكون معظم هذه الادعاءات كاذبة ومفبركة أو هى تفبرك بتعميم جريمة قام بها فرد مسلم وبالتالى يتم اعتبار كل مسلمى الهند ، البالغ عددهم مئتى مليون، مسئولا عنها…

وقد فازت حكومة مودى فى الانتخابات التالية التى عقدت سنة 2019. وهنا اشتدت عزيمتها لمحاربة المسلمين بمختلف الطرق مثل التدخل فى الأحوال الشخصية الإسلامية وتجريد ولاية جامو وكشمير من استقلالها الذاتي ومن وصفها كولاية فتم تحويلها إلى منطقة تابعة مباشرة للحكومة المركزية مع تقليص الحريات السايسية والمدنية بها الى حد كبير. وتمكنت حكومة مودى من استصدار قرار من المحكمة العليا بإعطاء أرض المسجد البابري للجانب الهندوسي. وقد سكت مسلمو الهند على هذا الظلم الصريح لأنهم كانوا قد أعلنوا مسبقا أنهم سيقبلون بحكم المحكمة العليا بهذا الخصوص أيا كان.

 

مخاطر قانونية الجنسية الجديد

وأخطر هذه الخطط ضد مسلمى الهند تمثلت فى تعديل قانون الجنسية الهندي فى ديسمبر2019 بحيث سيتم إعطاء الجنسية لغير المسلمين القادمين من باكستان وبنغلاديش وأفغانستان وإجراء مسح عام فى كل أنحاء البلاد لمعرفة المهاجرين “غيرالشرعيين” و”المتسللين” ويقصد بـ”المتسلل” كل من لايحمل أوراقا معينة (مثل شهادة الميلاد والتخرج فى الثانوية العامة وشهادة ملكية الأراضى) تثبت جنسيته الهندية. وبما أن غالبية الهنود لا يملكون هذه الأوراق  فسيتم تصنيفهم كمتسللين وسيتم تجريدهم من الجنسية الهندية ومن كل المزايا التى يحصل عليها المواطن الهندي أى سيصبحون فى وضع أشبه بحالة اللاجئين الفلسطينيين فى لبنان أو “البدون” فى بعض دول الخليج. أما الهندوس الذين لايملكون الأوراق المطلوبة فسيكون بإمكانهم الادعاء بأنهم جاءوا من دول الجوار فيحصلون على الجنسية الهندية من الباب الخلفي فى ظل القانون الجديد الذى يسمح بتجنس المهاجرين غيرالمسلمين من دول الجوار…

وهنا ثار المسلمون وخصوصا المرأة المسلمة فى كل أنحاء الهند فأقاموا آلاف المظاهرات التى استمرت ليل نهار لعدة أشهر فى مئات من المدن الهندية إلى أن جاءت جائحة الكورونا فى أواخر مارس 2020 فقامت الحكومة بتفريقها بالقوة. وتنوى الحكومة الهندية تنفيذ قانون الجنسية الجديدة بعد استتباب الأحوال عقب السيطرة على جائحة الكورونا ، وهذا يعنى تجدد المظاهرات فى كل أنحاء الهند ضد هذا القانون الغاشم الذى سيحرم عشرات الملايين من مسلمى الهند من جنسيتهم الهندية وسيؤدى الى كارثة إنسانية غيرمسبوقة للهند ودول الجوار.

 

تفكير فى إلغاء العلمانية من الدستور

هناك إشارات بأن حكومة مودى الحالية تفكر فى تغيير الدستور الهندي وحذف تأكيده على علمانية الدولة واشتراكيتها وذلك لتمهيد الطريق لإقامة دولة هندوسية فى الهند يصبح فيها غير الهندوس، وخصوصا المسلمون، مواطنين من الدرجة الثانية . وهذا قد يكون صعبا على هذه الحكومة لأن المطلوب لإحداث تغيير فى الدستور الهندي هو تأييد ثلثى أعضاء البرلمان للتغيير وهذا قد لايتوفر لحكومة مودى فى ظل الأوضاع الحالية ولكن هذه الحكومة معروفة على تجاوز مثل هذه العراقيل بأساليبها الملتوية وتخطيها الأعراف والتقاليد.

وهذا لايعنى أن الهند نفسها قد تخلت عن توجهاتها العلمانية والتعددية واحتضان الآخر، فلايزال هناك كثيرون من القادة والمفكرين والسياسيين ورجال حقوق الإنسان والإعلاميين ممن يؤمنون بقيم العلمانية والتعددية وينبرون للدفاع عنها كلما تعرضت للخطر. ونحن نأمل أن الانتخابات القادمة سنة 2024 سيتمخض عنها نظام سياسي جديد يقوّى العلمانية ويعمل على إصلاح ما أفسدته حكومة مودى الحالية.

التعليقات مغلقة.