فلسفة التعليم في الإسلام و أسسها المنهجية (1)

أ. ذكي الرحمن الغازي

إن الحديث عن العلم و التعليم حديث مهم، تنبع أهميته عن أهمية التعليم نفسها، و هو في الوقت نفسه يحتاج إلي بسط و تكرار حتي تتحول الأساليب التعليمية و التربوية لدي أهلها إلي قريب من الملكات بحيث يكون المعلم المربي قادرا علي مواجهة المواقف الطارئة و كأنه قد أعد لها منذ زمن و رتب لها الترتيب المناسب.

إن المخرجات التعليمية تتأثر بشكل كبير جدا في كثير من الحالات بل في أغلبها لمدي قدرة و جدارة طريقة التعليم و فلسفته علي ممارسة الأثر المطلوب من التعليم و التربية و إحاطتها بخبرات الجيل الناشئ و مهاراته و تمكنها من الأساليب و الوسائل التعليمية المبتكرة مع القدرة علي تطبيقها و استغلالها في ظروفها المناسبة لها.

و في ظل الظروف الحاضرة التي تعيشها أمتنا الإسلامية يتبين مدي الأهمية القصوي للعناية بموضوع التعليم و التربية مما يحتم علي الاخصائيين في التعليم أو المعتنين بالشأن العلمي أو الذين لهم اهتمام به أن يساهموا بما لديهم من إفادات و توجيهات في هذا الشأن.

لقد كان علي دين لازم و حق ثابت لكثير من الناس و أعظمهم حقا علي والدي الجليل الذي كان سببا في وجودي و له بعد اللّٰه الفضل الأكبر علي حيث نشأني نشأة دينية و علمني كيف أعبد ربي و كيف أعامل الناس كافة، ثم أستاذي العظيم صاحب الفضيلة السيد محمد طاهر بن صغير أحسن العمري المدني، كانت له بي عناية كبيرة أثناء دراستي في جامعة الفلاح و له علي أياد بيضاء لا استطيع مكافأته عليها إلا بالدعاء و الشكر له، و هو أٔول من فتق لساني بالخطاب الأردي و العربي علي سواء كما أنه يحرص جد الحرص علي تعلمي، فجزاه اللّٰه عني أفضل ما جوزي به معلم عن متعلم. و الآن إعترافاً بفضله و تقديراً لأمره و إنطلاقاً من تقدير أهمية الموضوع و ضرورة العناية به و احتياج أمتنا إلي التعامل السديد مع قضية التعليم في بعدها العملي و التطبيقي علي مستوي الجامعات و المعاهد العلمية مثل جامعة الفلاح – حرسها اللّٰه من كل سوء – فإنني أتقدم بهذا الموجز الميسر بعنوان ’’ فلسفة العلم و التعليم في الإسلام و أسسها المنهجية ‘‘ إسهاماً في هذا المجال راجياً من اللّٰه تعالي أن يجعله نافعاً و إضافة في مجاله و عوناً علي فهم القضية.

 

 

 

التعليم

التعليم هو مجهود شخص لمعونة آخر علي التعلم، و هو ( التعليم ) عملية حفز و استثارة قوي المتعلم العقلية و نشاطه الذاتي و تهيئة الظروف المناسبة التي تمكن المتعلم من التعلم، في حين أن التعلم مجهود شخصي و نشاط ذاتي يصدر عن المتعلم نفسه و قد يكون بمعونة من المعلم و إرشاده. و التعليم الجيد يكفل انتقال أثر التعلم و التدريب و تطبيق المبادئ العامة التي يكتسبها المتعلم علي مجالات أخري و مواقف مشابهة، و تمتاز عملية التعليم الصحيحة بأنها تكوّن اتجاهات لدي المتعلمين نحو الدقة و النظام و الثقة بالنفس، و اتجاهات اجتماعية مثل التكيف بالبيئة الإجتماعية و التعامل مع الآخرين و إنشاء علاقات عامة، و اتجاهات فكرية و عقلية كالبحث و التحقق من صحة المعلومات و حل المشكلات بالطريقة العلمية. [ أسس التقدم عند مفكري الإسلام، فصل: دروب الفعل: فهمي جدعان، ص ۲۷۳ ]

و لا تتم عملية التعليم إلا بوجود ثلاثة عناصر، هي: ۱. المعلم أو المرشد أو الموجه ۲. المتعلم و هو الفرد الذي يريد أن يتعلم ۳. المادة أو الموضوع.

أما المعلم فهو الإنسان الذي يقوم بعملية التعليم و نصح و إرشاد التلاميذ و مساعدتهم علي اكتساب الخيرات و ذلك بأن يضعهم في مواقف تعليمية معينة، و إذ لم يوجد المتعلم و هو التلميذ فإن مهمة المعلم تكون ناقصة بل لاغية، أما حلقة الوصل بين المعلم و المتعلم فهو الموضوع أو مادة التعليم، و هذه المادة يجب أن يكون لها منهاج و طريقة يؤديان إلي هدف العملية التعليمية، علي أن عملية التعليم لا يمكن أن تتم هكذا و بدون أماكن محددة فلا بد و الحالة هذه أن توجد أماكن تقوم بها عملية التعليم مبتدئين بالبيت كمكان تعليم ثم المدرسة ثم مكان العمل. [ أسس التربية، إبراهيم ناصر، ملخص ۱۲۷ -۱۶۹ ]

أما التعليم المدرسي الذي نحن بصدده فهو نقل المعلومات من المعلم إلي المتعلم بقصد إكسابه المعرفة، و من المسلم به أن هناك عوامل عديدة تتدخل في عملية التعليم في كل مجتمع من المجتمعات و في كل منطقة من مناطق العالم، و تحدد هذه العوامل نوع التعليم في تلك المنطقة أو المجتمع، من هذه العوامل ما هو اجتماعي و منها ما هو أيدلوجي فكري و منها ما هو جغرافي و منها ما هو اقتصادي و منها ما هو خاص بالتركيب السكاني أو ما هو عقائدي ديني. [ دراسات مقارنة في التربية الإسلامية: أبو الفتوح التوانسي، ص ۱۲۵ ]

 

العلم و التعليم في الإسلام

منح الإسلام العلم قدسية حيث جعل ’’ طلب العلم فريضة علي كل مسلم ‘‘ [ سنن ابن ماجه، حديث رقم: ۲۴۴ ] فثمة قدر من العلم ضروري لإيمان المسلم و عبادته و معاملاته، و هو القدر المفروض عليه تعلمه، و ما سواه فهو من فروض الكفاية، و قد مدح اللّٰه حاملي العلم فقال: { إِنَّمَا يخْشَي اللَّه مِنْ عِبَادِه الْعُلَمَائُ } [ فاطر: ۲۸ ] و خص العلماء بالخشية لأنهم أعرف الناس باللّٰه و كلما كان العبد بربه أعرف كان له أرجي و منه أخوف، فالعلم سبب لمرضاة اللّٰه تعالي و سبب للحياة الطيبة في الدنيا و الحياة البرزخية و في الحياة الآخرة، و العلم سبب لتقويم السلوك و تهذيب النفوس و هو سبب – لمن أخلص النية في طلبه و تطبيقه – للنجاة من الشرور علي اختلاف أنواعها و أجناسها.

و قد وردت أحاديث كثيرة في الحث علي طلب العلم و نشره و بيان فضل طالبه، فطلبة العلم تسبط لهم الملائكة أجنحتها [ سنن ابن ماجه، حديث رقم: ۲۲۶ ] و تحفهم الملائكة و تغشاهم الرحمة و تنزل عليهم السكينة و يذكرهم اللّٰه فيمن عنده [ سنن ابن ماجه، حديث رقم: ۲۲۵ ] و طلب العلم توفيق من اللّٰه للإنسان. ’’ من يرد اللّٰه به خيرا يفقهه في الدين ‘‘ [ صحيح البخاري: ۷۱، مسلم: ۷۱۸ ] و العلم مثل المال يصلح للتصدق به علي الناس. ’’ من الصدقة أن يتعلم الرجل العلم فيعمل به ثم يعلمه ‘‘ [ جامع بيان العلم و فضله لابن عبدالبر، ص ۱۲۳ ] و طلب العلم عبادة فلابد من استحضار النية فيه. ’’ من تعلم علماً مما يبتغي به وجه اللّٰه لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ‘‘ [ سنن أبي داود: ۳۶۶۴ ] و ترتب علي العلم مسؤولية دينية تضبط توجيهه نحو خير  الإنسان و سعادته و تمنع إنحرافه و تهديده للعدل و الأمن البشري، و في القرآن: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كلُّ أُولٰٓـئِك كانَ عَنْه مَسْئُولاً } [ الإسراء: ۳۶ ] فالحواس مسؤولة دينياً عن العلم طلباً و تنفيذاً، و العالم يسئل عن موقفه العلمي، ففي الحديث: ’’ لا تزول قدما عبد حتي يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه و شبابه فيما أبلاه و عن ماله من أين اكتسبه و فيما انفقه و عن علمه ماذا عمل به ‘‘ [ سنن الترمذي: ۲۴۱۷، و الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع للخطيب البغدادي، ص ۸۸،۸۹ ]

و الإحساس بالمسؤولية الدينية ولّد ضوابط خلقية و قواعد منطقية و آدابا عامة تركت تأثيرها في الحركة الفكرية الإسلامية، من ذلك ضرورة التحلي بالأمانة العلمية. فالعالم لا يقول جزافاً لأنه مسؤول عن صحة المعلومات التي يدلي بها ’’ فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم ‘‘ [ صحيح البخاري، كتاب التفسير، ۳۰، ۳۸، ۴۴ ] و هو لا يكتم العلم و لا يبخل به، إذ ليس العلم الذي حازه ملكاً خالصاً له، بل فيه حق عام ربما يكون أوسع من الحق العام في الملكية الفردية، لذلك توعد القرآن و الحديث العلماء الذين يكتمون العلم، ففي القرآن الكريم: { إِنَّ الَّذِينَ يكتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَينَاتِ وَالْهدَي مِن بَعْدِ مَا بَينَّاه لِلنَّاسِ فِي الْكتَابِ أُولَـئِك يلعَنُهمُ اللّٰه وَيلْعَنُهمُ اللَّاعِنُونَ  } [ البقرة: ۱۵۹] { إِنَّ الَّذِينَ يكتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّٰه مِنَ الْكتَابِ وَيشْتَرُونَ بِه ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِك مَا يأْكلُونَ فِي بُطُونِهمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يكلِّمُهمُ اللّٰه يوْمَ الْقِيامَة وَلاَ يزَكيهمْ وَلَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة: ۱۷۴ ] و في الحديث: ’’ من سئل عن علم نافع فكتمه جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار ‘‘ [ سنن أبي داود: ۳۶۵۸، و الترمذي: ۲۶۴۹، و ابن ماجه: ۲۶۶ ] و الإنسان لا يولد عالماً غير أنه قادر علي تحصيل العلم ببذل الجهد، فهو يولد علي الفطرة و أبواه يؤثران تأثيراً بالغاً في نقل الأفكار و القيم و العقائد إليه، و في الحديث: ’’ إنما العلم بالتعلم ‘‘ [ صحيح البخاري، كتاب العلم: ۱۰ ]

و ما دام للتعليم قدسية، و منه ما هو فرض متعين علي الأفراد، فلابد أن يكون ’’ التعليم للجميع ‘‘ ميسّراً لا تعيقه أية عوائق مادية أو إجتماعية، و هكذا ساد مبدأ ’’ مجانية التعليم ‘‘ و ورد النهي عن أخذ الأجرة عليه، فقد نهي الرسول ﷺ أبي بن كعبؓ عن قبول هدية من أحد طلابه و قال له ’’ إن أخذتها فخذ بها قوساً من النار ‘‘ [ البيهقي: ۱۲۶ ] و يبدو أن النهي تكرر مع عبادة بن الصامتؓ، قال عبادةؓ: علّمت ناساً من أهل الصفة الكتاب و القرآن، فأهدي إلي رجل منهم قوساً، فقلت: ليست بمال و أرمي عليها في سبيل اللّٰه عزوجل، لآتين رسول اللّٰه ﷺ فلأسئلنه، فأتيته فقلت: يا رسول اللّٰه ! رجل أهدي إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب و القرآن و ليست بمال و أرمي عليها في سبيل اللّٰه ؟ قال: إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فأقبلها ‘‘ [ سنن أبي داود: ۳۴۱۶ ] و قد تكلفت الدولة في عصر الراشدين بدفع نفقات التعليم أحياناً و قام المجتمع بذلك أحياناً أخري و لم يعرف عن طلبة العلم أنهم دفعوا نفقة للتعليم علي مدار التاريخ الإسلامي.

و نظراً لأن العلم كانت تحفظه صدور العلماء غالباً و يتم نقله مشافهة، فإن العلم ارتبط بالعلماء، وهو يبقي ما بقوا، و ينقص إذا توفي العالم ، و هذا ما يشير إليه حديث قبض العلم: ’’ إن اللّٰه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد و لكن يقبض بقبض العلماء حتي إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا و أضلوا ‘‘ [ صحيح البخاري: ۱۰۰ ] فلا غرابة إذا اعتبر موت العالم ثلمة في الإسلام. [ مقدمة الدارمي، ص۳۲ ] فالعلماء ورثة الأنبياء. [ صحيح البخاري، كتاب العلم: ۱۰ ] ورثوا عنهم العلم و هذا الإحساس بخطورة نقص العلم بسبب موت العلماء كان من أقوي الدوافع التي أدت إلي إختيار العلماء طريق تقييد العلم و عدم الإكتفاء بحفظ الصدور، ذلك الإختيار الذي كان له أهمية كبري في حفظ علوم الإسلام، و لم يكد القرن الأول ينتهي حتي ظهرت أولي المصنفات دليلاً علي غلبة الإتجاه نحو التدوين و لكن حفظ الصدور لم ينقطع بل استمر التأكيد عليه قروناً طويلة و لا زال التعليم الإسلامي يؤكد علي الحفظ و الإستظهار حتي الوقت الحاضر.

 

معطيات الإسلام في مجال التعليم

إن الإعتماد الكبير علي الذاكرة النشيطة في نقل التراث و عدم اكتراث جمهور العرب بتعلم الكتابة و القراء ة أدّيا إلي إعاقة ظهور مؤسسات التعليم، فلم يقم منها فيهم سوي الكتاب الذي لم ينتشر إلا علي نطاق محدود في المراكز الحضرية في عهد ما قبل الإسلام، فلم يكن هناك تعليم عام بل كانت الأمية هي الطاغية، و ورد في الحديث: ’’ إنّا أمة أمية لا نكتب و لا نحسب ‘‘ [ صحيح مسلم: ۷۶۱ ] و بالتالي لم تكن تقاليد منهجية متبلورة للتعليم، فكان أن حدد الإسلام المعالم كاملة، فأوضح أهمية العلم و ربطه بالدين فعزز بذلك مكانة العلماء و بين آداب التعليم و تقاليده بعمق و شمول، فأصبحت تُحتَذي طوال القرون اللاحقة و لا تزال قادرة علي اثراء نا الكثير من القيم الثقافية و التربوية الراشدة.

لقد قامت حركة التعليم في تاريخ الإسلام علي أكتاف رجال يعدون علي أصابع اليد، و لكن الحافز الديني – الذي جعل الأمة تحدد أهدافها و توحد قواها لبلوغها – أوجد وسطاً ملائماً لإنتشار التعليم، و بعد زمن يسير ظهرت آثار حركة التعليم الجديدة في إظهار الطاقات الكامنة، فإذا بأعداد هائلة تعني بالفكر و العلم و تظهر القدرة و الإبداع في ميادين شتي، فتسهم في بناء الصرح الثقافي الحضاري الجديد، و لا شك في أن الإنسجام العقيدي و الفكري و الإجتماعي و وضوح الرؤية بتحديد الأهداف العامة للدولة و المجتمع، دفعا بقوة حركة التعليم بل الحركة الثقافية العامة لمواكبة التقدم العسكري و السياسي و حل المشكلات الجديدة، فتحديد وجهة التعليم و أهدافه لأول مرة في التاريخ المعلوم كان من معطيات منهجية الإسلام، و قد أدت هذه الحوافز القوية و الضوابط الجديدة إلي إنتشار التعليم بسرعة خارقة لا تقل دهشة الإنسان أمامها عن دهشته إزاء سرعة الفتوح العسكرية للإسلام، إذ لا ريب في أن الإسلام أحدث ثورة التعليم التي أثمرت النضوح الفكري المباغت و شكلت بذلك ظاهرة خارقة للعادة.

إن المتتبع لتاريخ الأمة الإسلامية يجد أن تعليم القراء ة و الكتابة كان بدافع من إكساب النشء القدرة علي تلاوة القرآن الكريم و حفظه، و قد كانت العلوم اللسانية تدرس بقصد فهم القرآن و تذوق أساليبه البليغة و آياته البينات، و قد يظن البعض إن ارتباط مواد الدراسة بالدين مما يعوق الدارس عن التعمق في العلوم الطبيعية و غيرها، ولكن الحقيقة أن الدين نفسه و عندما نرجع إلي آي القرآن الكريم نجد أن آيات العلم فيه و التي تحث علي تحصيله و دراسة الظواهر الطبيعية و كشف ما ورائها من قوة تستخدم في إسعاد الإنسان و إخصاب حياته تبلغ ألف و خمسمائة آية بينما آيات التشريع الإسلامي تقل عن ذلك كثيراً.

لقد أعاد الإسلام صياغه شخصية الإنسان، ففجّر طاقاته الإبداعية الكامنة من أجل العلم و العمل لبناء حضارة إنسانية متوازنة، و كانت نظرية المعرفة الإسلامية بشمولها و تكاملها و اتساقها وسيلة لإحداث التغيير الجذري في كيان الإنسان و بنية المجتمع، تلك النظرية التي غرس القرآن بذرتها و عبرت عنها السنة في فجر تاريخ الإسلام، و قامت الدولة الناشئة في المدينة المنورة بمسؤوليتها في بداية الأمر فقيادتها أكثر وعياً للحاجة إلي التعليم و هي تواجه مسؤولية إدارة الدولة و حاجاتها المتنوعة للتعليم، فتحولت حركة التعليم إلي كتاتيب و حلقات علم و مجالس في المساجد و في دور العلماء و ظهرت جذور المدارس الفكرية المتنوعة. كانت المعاهد و المدارس تنشأ لخدمة القرآن و العلوم الدينية و الفنية، و كثير من أعيان المسلمين و أغنيائهم الموسرين يتطوعون لإنشائها، و لم تكن الحكومة تتدخل في شؤون التعليم و لم يعرف مبدأ التعليم الإجباري في التربية الإسلامية، و لكن الأمر الذي يدعو إلي الإعجاب أن المدرس كان هو الذي يضع المنهج و يرسم الخطط و الأساليب المناسبة لتنفيذه، و لم يكن لأحد الحق في التدخل في شؤون المدرسين، فكانوا أحراراً في اختيار الطرق و المواد الدراسية، و تلك هي اللامركزية في التعليم، و لكن شيئاً واحداً كانوا يلتزمونه هو الاهتمام باختيار المواد التي تجذب إليهم الطلاب.

و الحق الذي ينبغي أن يقال إن مسؤولية الدولة الإسلامية عن التعليم محدودة النطاق. فقد تركت الحكومات الإسلامية طوال التاريخ الإسلامي للناس حريتهم في التعليم مع أنها منحتهم التشجيع و المؤازرة، و لا شك أن حرية التعليم و بعده عن هيمنة الدولة ظلا سمة منهجية متميزة له، فإن ظهور المدارس و الجامعات الأولي في الإسلام تلك التي يراها التاريخ تحت رعاية الدولة و حمايتها إنها لم تكن في الحقيقة تحت إشراف الدولة إلا من حيث إمدادها بالنفقات و مساعدتها علي البقاء، لهذا استمرت حرية التعليم بعد ظهور تلك المؤسسات و المنازل العلمية.

إن مبدأ ’’ مجانية التعليم ‘‘ و كذلك مبدأ ’’ التعليم للجميع ‘‘ هما من معطيات الإسلام الخالصة، فقدسية التعليم و إرتباطه بالعقيدة جعلت رواده يهدفون إلي خدمة المبدأ عن طريق التعليم بدلاً من التكسب به، و قد استمر هذا المبدأ في التاريخ الإسلامي حيث كان التعليم شعبياً بما تحمله هذه الكلمة من معني، يناله الغني و الفقير بل إن حظ الفقراء فيه أعظم من حظ الأغنياء و تفرغهم له و بروزهم فيه كان أكبر، و لم يكن قاصرا علي الطبقات الحاكمة و الغنية كما هو حال العصور الوسطي الأوربية. و لم يكن التعليم في الإسلام لطبقة خاصة من الشعب بل كان مباحاً لكل الطبقات، يستوي في ذلك الغني و الفقير من غير أن يكون هناك معاهد خاصة لأبناء الأغنياء كما نراه اليوم في بعض الدول التي تدعي زعامة العالم الحر إذ تعمل بمبادئ التفرقة العنصرية، و الإسلام يعمل علي تحقيق المساواة في التعليم و يدعو إلي شعبية التعليم و جعله ديموقراطياً و حقاً للجميع بالمجان مع إقرار مبدأ تكافؤ الفرص بحيث يتاح التعليم للجميع وفق مواهبهم و استعداداتهم.

و منذ بدء حركة التعليم في الإسلام، اقترن العلم بالعمل، فلم يفصل بين العلم و حاجات الحياة الواقعية طوال التاريخ الإسلامي بإستثناء تيارات شاذة تمثل الترف الفكري و النزوع العقلي و النظري الخالص، و من أبرزها مدرسة المعتزلة التي لم يكتب لها الهيمنة علي الحياة الفكرية للأمة و إن علا صوتها – بقوة السلطان – زمناً يسيراً في العصر العباسي.

و اقتران العلم بالعمل من أهم المبادئ التي صبغت فلسفة التعليم في الإسلام فيما يشبه البر اجماتيكية المعاصرة في عمليتها و يخالفها في ماديتها و نفعيتها و قد ولّد هذا الطابع العملي آثاراً تربوية عميقة و أثمر حضارة باهرة شاركت في بناء صرح التمدن البشري. استهدف الإسلام من خلال التعليم و التربية وصل الدين بالحياة، ففي المساجد التي تعد من أهم مراكز العلم و التعليم تدور المناقشات في الأمور السياسية و جميع مشكلات الحياة التي تشغل أفكار الناس و يحتاجون إلي حلول حاسمة لها، و اتخاذ المساجد مكاناً للجمع بين العبادة و تأدية الصلوات و تعليم العلم و المناقشة في الأمور العامة و سياسة الدولة  إنما كان يقصد منه توضيح الفكرة القائلة بأن الدين ليس بمعزل عن الحياة و أن هناك ارتباطاً قوياً بين الدين والحياة.

كذلك أن منهج التعليم عند المسلمين مدينة للإسلام بمبدأ ’’ التعليم المستمر ‘‘ طوال الحياة، و لأجل ذلك رجال كثيرون انقطعوا للعلم من المهد إلي اللحد، و يندر أن نجد عالماً ترك التعلم أو اعتقد أنه وصل إلي الكمال، و لو استمر هذا المبدأ يسيطر علي حياتنا الثقافية حتي الوقت الحاضر لكان لنا شأن آخر في الحركة الثقافية العالمية.

و قد اهتم الإسلام بتعليم الكبار ’’ فكان الصحابة يتعلمون في كبر سنهم، لكن الأصل هو البدء بالتعلم عند الصغر غير أن من فاته ذلك يلقي الباب مفتوحاً أمامه، و من أبرز خصائص منهجية التعليم في الإسلام قيامه علي الجهود الفردية، فمبدأ ’’ التعلم الذاتي ‘‘ ما زال مهيمناً علي نشاط العلماء و المتعلمين حيث ظل كثير من العلماء في التاريخ الإسلامي يقومون بتعليم أنفسهم بجهودهم الخاصة دون الإرتباط بمؤسسات التعليم أو تلقي الحوافز التشجيعية من الدولة، و الجدير بالذكر أن مبدأ ’’ تراكم المعرفة ‘‘ و ’’ تجميع العلم ‘‘ كان و ما زال من خصائص الحركة الفكرية الإسلامية عن طريق تنويع مصادر التلقي و الأخذ عن الأساتذة الكثيرين و الرحلة في طلب العلم لتجميعه، تلك الرحلة التي أثمرت التجانس الفكري و التلاقح الأدبي و الحفاظ علي وحدة الهوية الثقافية كما أثمرت – فيما بعد – الدراسات المتعلقة بالبلدان و السكان و الجغرافيا و الأنثروبولوجيا.

إن هذه السمات العامة لمنهجية التعليم في الإسلام تدعمها النصوص المبعثرة في المصادر التراثية، و هي مصادر تحتاج إلي قراء ات معاصرة تقف علي قيم التعليم و تقاليده في الإسلام و تحدد مجالات توظيفها في بناء نا الثقافي و مؤسساتنا التعليمية المعاصرة مما يؤكد الهوية الثقافية لأمتنا و يحدد عملية الأخذ و العطاء المتبادلة بيننا و بين الثقافات المتنوعة و مؤسسات التعليم المختلفة المعاصرة.

(يتبع)