ما أشد حاجة العصر الراهن إلى سيرة خاتم النبيين

 

 مقصود خان

من بين النعم والعطايا التي أنعم الله بها على الجنس البشري، أحسن النعم وأجلها شأنا وأكثرها قوة ونفعا تتمثل في سير الأنبياء وإنجازاتهم الإصلاحية، والذين أرسلهم الى الإنسان في البلدان المختلفة بين الفينة والأخرى. فكرامة الإنسانية وعزتها يرجع فضلها الى سيرهم. وإذا أخرجت تعاليمهم عن تاريخ الجنس البشري فلا يبقى تاريخ العالم الا قصة عن الأكل والشرب، والحرص والطمع، والاستئثار والمصلحة الشخصية، والخصام والقتال، والأوهام والخرافات والجهالة والضلالة. وأينما تظهر مصابيح الهدى تتضاءل فيكشف التحقيق القناع عن أن تاريخ نورهم يرجع الى تعاليم أي رسول حق وجهوده. فالهداية التي تبلغ بها قوافل البشرية الضالة الى منزلها المنشود وتصل بها سفن الحضارة الغارقة الى شاطئ النجاة، لا توجد الا في تعاليم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

اليوم حينما تواجه البشرية هذه المعركة مرة أخرى في تاريخها فليس هناك عمل أنفع من عرض سيرها وتعاليمها للعالم و بذل الجهود لتطبيقها  على أنفسنا والآخرين.

ومن أولئك الرسل (صلاة الله وسلامه عليهم) الرسول الذي قدّر له الفوز الكبير وأعطي واجب هداية أكبر بقاع البشرية والحضارة تاريخيا وجغرافيا، لهو محمد الرسول صلى الله عليه وسلم. فلا تكون في الحين سيرة نبي من الأنبياء محفوظة الا سيرته صلى الله عليه وسلم  التي تتوفر في كل مكان لهداية العالم كله. وهي أكثر ثروات الإنسانية قيمة فيكمن فيها عطر سير الأنبياء  وجوهر التعاليم والهدى السماوية وأكبر خزائن الأخلاق والقوى الروحية.

فيمكن هداية سلوك الانسان وسيرته ومشاعره ووجدانه بالسيرة النبوية صلى الله عليه وسلم ولذلك قال الله تبارك وتعالى ” لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة”. وهذه الأسوة لا تنفع إلا من يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا.

والسيرة النبوية توفر لنا الدليل الذي يحدد اتجاه الريح ويساعدنا على الوصول الى المنزل المنشود ويعطينا ترياق سم النفسانية فلا يمكن ان يزول مرض النفسانية فقط بإسداء النصائح وتقديم المقالات وتنظيم الندوات وعقد المباحثات العلمية فالنفسانية أكبر مأساة فرقت شمل الأمم. فهذه هي النفسانية التي تثير النزاع بين الأخ والأخ والعداوة بين الجار والجار والبغضاء بين القريب والقريب وتوتر العلاقات بين الزوج والزوجة وتفسد الروابط بين الإبن والأب وتنتهك أمومة الأمهات فلا يتوفر علاج هذه النفسانية لا عند الحكومات ولا عند الأطباء ولا عند الأقارب والأصدقاء فيوجد علاجها ورد سحرها فقط في السيرة النبوية صلى الله عليه وسلم. فيحتاج العالم الى هذه السيرة أشد الاحتياج فينبغي نشرها قدر الإمكان عن طريق مجالس ربيع الأول ومحافل الذكر وحلقات مذاكرة الكتب.

وفقنا الله الاستفادة من السيرة النبوية والنهل من مناهلها في جميع مجالات الحياة وذلك لأن فلاح الدارين يكمن فيها فلا يمكن لأي مسلم ان يفلح ويكون على سواء السبيل بدون العمل على السيرة النبوية صلى الله عليه وسلم. فندعو الله ان يوفقنا جميعا العمل على سيرة رسوله وأسوته الحسنة صلى الله عليه وسلم بأتم شكل وأحسن طريق. آمين.

 

الحياة الهادفة

القطار السريع يسير بسرعته الفائقة الى محطته ويلفت انتباهه المنظر الخلاب الناشئ من الجداول والأنهار المترعة بالمياه والحقول الخضراء في كلا جانبيه ولكن القطار السريع لا يلتفت إلى هذه المناظر الجميلة ولا يحدث الارتفاع والانخفاض والبر والبحر أي فارق في سيره وتأتي محطات صغيرة في طريقه ولكنه، تاركا إياها يستمر في سيره كأنه لا يقف في مكان ما حتى يبلغ الى محطته المطلوبة.

ومثل الحياة الهادفة كمثل القطار فكل من حدد لحياته هدفا، يعنى كل العناية بتحقيق هدفه ولا يلوي على شيء يضيع أوقاته فيما لا يعنيه من الأمور.

ومن يعش حياة لها معنى، يكن مثل مسافر يريد أن يقضي كل لحظة من لحظاته لبلوغ مرامه والوصول الى وجهته. وتَعرِض لهذا المسافر مناظر الدنيا الخلابة لاستمالة نفسه واستلفات انتباهه اليها ولكنه يصرف نظره عنها. وترغبه الظلول ودور الإقامة في المكوث والاستراحة ولكنه لا يلوي على شيء منها ويستمر في التقدم الى وجهته،  وتعترض المتقضيات الأخرى في سبيله ولكنه يتحاشى كلا منها ويستمر في سيره ، وتنزل به صروف الدهر وريب المنون ولكن لاتضعف عزيمته ولا تحدث فرقا في سيره.

وحياة إنسان له هدف معين لا تكون مثل حياة شخص ضال يسير في طريق حينا ثم يسير في طريق أخرى حينا آخر لعدم تعين وجهة سفره ولكنه يدرك في ذهنه طريقه ووجهته إدراكا تاما وهو صاحب غاية معينة في حياته. فكيف يقف مثل هذا الشخص في مكان لا يعنيه وكيف يحب ان يشتغل بالأمور غير الضرورية الأخرى ويضيع أوقاته فيها بل يتعين عليه أن يصرف التفاته عن كل جانب ويستمر في التقدم الى وجهة محددة له حتى يحقق هدفه ويبلغ مرامه.

ولأجل جعل الحياة هادفة، لا بد ان يكون بين يدي المرء هدف محدد يطمئن قلبه الى صحته ويرتاح باله الى صدقه ويتجاوب ضميره معه تماما فيه ويجري من عروقه مجرى الدم. وهذه هي الغايات المنشودة في الحياة التي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان. وفي حال غيابها، لا  يبقى أي فرق بين الإنسان والحيوان. وكل امرئ تكون حياته هادفة،  لا بد ان تنقلب حياته الى حياة أخرى فإذا بنظره يتجه الى هدفه ولا  ينشغل بتوافه الأمور عن هدفه ويستمر في السير على طريقه المحددة حتى يبلغ مرامه.

شذرات العلامة السيد سليمان الندوي

أثبت ابن خلدون في مقدمته وأحسن إثباته أن الأمم لها أعمارها كما تكون للأشخاص أعمارهم فهي أيضا تولد وتشب وتشيخ ثم تموت. وتدل تواريخ العالم بأسره على هذه النظرية ويمكن ان يقال أن قد أصبحت هذه النظرية الآن قضية مسلما بها في فلسفة التاريخ.

ولكن دقة النظر فيها تكشف لنا أن خصائص الأمم ومزاياها ومرافق حياتها تختلف في مختلف مراحل أعمارها فتكون رغباتها  في طفولتها مثل رغبات الأطفال ، وفي شبابها مثل رغبات الشباب وفي شيخوختها مثل رغبات الشيوخ.  وتكون مبادئ تعليم تلك الأمم وتربيتها مماثلة لمبادئ تعليم الناشئين وتربيتهم.

إن مصلحي الأمة  هم معلمون لها والمعلم الناجح هو الذي يتبع مبادئ التعليم والتربية الطبعية. فكما أن المعلمين في حاجة الى تعويد الطلبة على الاستيقاظ مبكرا وممارسة الرياضة البدنية وبذل الجهود وتحمل العناء والمشقة، ومنعهم من الإقبال على طلب الراحة والجري وراء الموضة والتزين  ، فيحتاج كذلك مصلحو الأمة الى نهيها عن الجري وراء الترف والهناء والإخلاد الى الراحة والعطل، وصرف عناياتها الى بذل الجهود والمساعي وتحمل المشاق لأجل بلوغ غاياتها في الحياة، مما سينير حقيقة جهاد الإسلام لأهل البصائر.

وكما يجب على المدرسين أن يجعلوا الأطفال يبدؤون عملا ثم ينجزونه بثبات ومثابرة لكي تقوى عزائمهم ومثابرتهم على العمل وتعلو هممهم لإحراز نجاح بعد نجاح، فكذلك لا بد لمصلحي الأمة من بدء تطبيق أي اقتراح يقدمونه للأمة فورا وتمكينهم من إنجاز ذلك العمل بنشاط كامل وحماس بالغ مهما كلف الأمر لكي تصرف عنايتها كلها الى القيام بالأعمال الأخرى في نشوة النجاح في عمل فتزداد عزيمتها قوة  وهمتها علوا ومعنوياتها ارتفاعا ومثابرتها شدة  يوما بعد يوم. وفي حال عدم اتباع هذه المبادئ،  تزداد عزيمة الأمة ضعفا وهمتها صغرا ومعنوياتها انخفاضا.

وقل ان يبالى بهذا المبدأ في المرحلة الراهنة لتعليم مسلمي الهند وتربيتهم بل الجمعيات والهيئآت والمؤتمرات التي تم تشكيلها لأجل تعليمهم وتربيتهم، ساعدتهم على كونهم عاجزين وكسالى وعودوهم على اقتراحات كبيرة سموها بقرارات تعني ” إظهار العزيمة” ولكنها لا تعني عمليا إلا قولا فارغا لا حقيقة له، مما نتج عنه أن الأمة أصبحت مكثارا في القول بدون أن تكون عملية وواقعية.

وتزخر تقارير كل جمعية ومؤتمر بقوائم هذه العزائم القومية. وأما العمل عليها، فلا تسل عن ذلك لأن كلا منها يمثل خطوة من خطوات ضعفنا القومي وانحطاطنا الروحي وتضعضعنا الخلقي. اتركوا التاريخ الماضي للمسلمين فقد شوهد ذلك في الهند في فترة ما بين سنتي 1921-1922. وقد أظهر الروسيون الشيوعيون والتركيون الكماليون  عن طريق برامجهم لمدة خمس سنوات كيف يتم تعليم الأقوام وتربيتهم. ومن خلال هذه النقطة الوحيدة يمكن فهم حكمة نزول القرآن بالتدريج. فما كان هدف القرآن خلق قوم نظري وخيالي بل هدفه كان  خلق قوم عملي.

ومن أسرار التعليم والتربية الكبيرة للأقوام أن يتم تطبيق كل ما يستخرج من أفواههم لكي تزداد معنوياتها ارتفاعا خطوة بخطوة وتجيش منابع حياتها. وأكبر مصلحي الهندوس في هذا العهد يعمل بهذا المبدأ بالذات ولكن فكروا في مناهج تعليم المصلحين المسلمين وانظروا هل ركزوا طاقاتهم كل تركيز على قضية مهمة من قضايا حرب البلقان  وحرب طرابلس وحادثة كانبور واضطرابات جامعة علي جراه والحرب العالمية الكبرى وحركة الخلافة ومسألة الأماكن المقدسة وحركة تحرير البلاد، ولم يدعوها إلا وأنجحوها؟  فتثار قضية اليوم وتنسى غدا ولم يزل هذا دأبهم. ونتيجة لذلك، تنخفض معنويات المسلمين وتضعف هممهم وعزائمهم يوما بعد يوم ولم تنشأ فيهم قدرة الجهاد بثبات على جبهة واحدة حتى الحين.

والمبدأ الثاني للتعليم والتربية هو إفناء التفرد وتقوية الروح الجماعية وجعل طلبة العلم من خلال التجارب مرة بعد أخرى يشاهدون أن قوة الجماعة هي أكبر قوة للعالم وأن التفرد هو سم قاتل لحياة هذه القوة. فإن جميع الممارسات للمدارس والكليات ليست إلا لتدريب الطلبة على هذا المبدأ وتمرينهم عليه. وحينما توشك ان تفنى الأمم المسنة، تنشأ جراثيم موتها في جو هذا التفرد، مما يؤدي الى نشوء الأثرة والإقبال على التقدير الشخصي والغدر بالأمة وخيانتها في أفرادها. والتأكيد على الجماعة في كل عبادة من عبادات الإسلام ما ورد الا لحفظ هذا المبدأ.

في أيامنا هذه، يحدد مصلحو الأمة يوما وميعادا ويدربونها أحيانا على عقد الإضراب وأحيانا على تنظيم المسيرة وأحيانا على عقد الجلسة الشعبية وأحيانا على الاحتفال باليوم القومي او الاسبوع القومي او العيد القومي وذلك  لتعليم الأمة هذه القوة الجماعية. واقتراح جمع التبرعات المحددة في غضون المدة المعينة ليس إلا درسا لمبادئ التعليم هذه.  فهل يمكن توجيه السؤال الى المصلحين الحاليين للأمة المسلمة الى أي حد قد حفظت امتهم هذا الدرس وأن إعلان الجلسات العامة في هذا الوضع وعدم تطبيق قراراتها  كيف يزيد مرض المسلمين بسرعة كبيرة؟  فمن الأحسن ان لا يتم  تشجيع الأمة على شيء واستخراج قول من أفواههم بدون استعداد تام ولو يتم تشجيعهم على شيء واستخراجه من أفواههم، فلا بد ان يتم تطبيقه مهما كلف الأمر ولو لم يفعلوا ذلك فيعني ذلك إحداث ضعف في عزيمة الأمة وانحطاط في قوتها واضمحلال في روحها ثم إلقاءها في حفرة الموت.