رحلة فلسطين

25 رمضان 1443ه

د. محمد أكرم الندوي

(أوكسفورد)

كلمتي:

اجتمعنا كلنا في القاعة الكبرى لفندق الأرض المقدسة في الساعة الثانية عشرة ظهرا، وذكَّر لنا زيد بحديث النية، وإرشادات عامة تنظيمية يجب علينا التزامها طوال مدة رحلتنا.

وألقيت كلمة دعوت فيها الحضور إلى إعمال النظر في كل أمر من أمور دينهم ودنياهم، فالتفكير ينبههم من غفوتهم، ويزيل عنهم آثار العادات والرسوم الرتيبة الخشيبة، ويفضي على أفعالهم وأقوالهم لباس الحيوية والروح والنشاط، ومن أهم ما يفكرون فيه هنا: لماذا فضل الله أرضا على أخرى وبلدا على غيره؟ وما كوامن فضل بيت المقدس والمسجد الذي كان مقصد الأنبياء والمرسلين ومعتكف عباد الله الصالحين والذي أسرى الله إليه بعبده محمد صلى الله عليه وسلم وأشاد بذكره في كتابه المجيد؟

ثم حثثتهم على أن نشكر الله تعالى على نعمه، كلما شكرنا نعة من نعمه زادها فضلا منه، وقد اختارنا من بين عباده لزيارة هذا المسجد الطاهر الميمون فلنشكره على ذلك، ومن الشكر أن نعبده ونطيعه، ونتجنب معاصيه، فلنحرم على أنفسنا الكذب والغيبة وأن نؤذي أحدا، ولنزجر أنفسنا إذا أسرفت فإن الأظفار متى لم يقصصن كلمن الأبدان، لا بأس أن نستريح وننام إذا تعبنا، ولكن الحرج كل الحرج في مقارفة المعاصي والذنوب، فلا نقدم الدهر على مأثم وإذا بدر منا شيء منه تسارعنا إلى الاستغفار والتوبة والإنابة.

واستلفت نظرهم إلى أن هذه المدينة خضراء جميلة، يطل علها جبل الزيتون وجبل المكبر وجبل صهيون، والمياه متوفرة فيها، والأشجار والدوحات متكاثرة فيها، وكأنها جنة من الجنان، فما للأنبياء والمرسلين أعرضوا عن الاستمتاع بها، واقتنعوا بمقام أو مقعد أو مضطجع في هذا المسجد؟ إنهم علمونا أن النعم الدنيوية سخرها الله لهم وأنهم خلقوا لعبادة رب العالمين، عاشوا في الدنيا منقطعين عنها غير متنافسين فيها، وزاهدين في متعها ولذاتها كل الزهد، وهذا هو معنى قوله تعالى “بل تؤثرون الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى، إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى”، فلنتعلم هذا الدرس العظيم، ولنقض أوقاتنا في التأله والتعبد، ولنتجنب التسكع في الشوارع والأسواق، لا يستهوين العالمون قلوبنا، فما عيش الغافلين إلا سقما من الأسقام لا يشفيهم منه إلا الموت المفاجئ لهم، ولنعكف نفوسنا على التوجه إلى رب العالمين، وشرحت هذا المعنى في ضوء قصة إبراهيم عليه السلام، وفسرت لهم قوله “لا أحب الآفلين”.

ورأيت أصحابي أثرت فيهم الكلمة تأثيرا، وظلوا محيطين بي يستفهمونني أمور دينهم ويستشرحونني ما خفي عليهم من معاني الكتاب العزيز، وحمدت الله عز وجل على توفيقه إياي خدمة عباده، وهنا توجهت إلى الله تعالى سائلا إياه أن يزيدني من نعمه، ويجعل عملي كله خالصا لوجهه الكريم.

الزيارات:

ثم انقسمنا مجموعتين، مجموعة لأهل فندق الأرض المقدسة، وأخرى لأهل فندق الأسوار الذهبية، وخرجنا لزيارة أهم معالم المسجد الأقصى وآثار بيت المقدس، ومع كل مجموعة دليل فلسطيني يجيد اللغة الإنكليزية، وكان دليلنا اسمه غالب، فقلت: لن أنسى اسمك، فأكبر شعراء اللغة الأردية هو “الميرزا أسد الله خان غالب”، فساءته كلمة الميرزا، لأنها تذكِّره بالميرزا غلام أحمد القادياني، فبينت له أن المير أصله الأمير، و”زا” معناه ولد، فالميرزا هو آل الأمير، لقب لأصحاب الأنساب الشريفة.

لن أصف هنا المعالم التي وصفتها في رحلتي المطبوعة، فنيتي أن أضيف هذه اليوميات إلى تلك، والتكرار عيب في الكتاب، ولكن سأتحدث عما تجدد لي من الزيارات أو ما خطر ببالي من الانطباعات.

دخلنا من باب الساهرة، وهو الباب الذي كنا ندخل بيت المقدس منه خلال إقامتي الأولى فيه، ومررنا بالأسواق والمحال، لم يتغير منها شيء، ودخلنا ساحة المسجد، والناس مشتغلون بالصلاة، وقراءة القرآن، والتسبيح والدعاء، ولم يظهر لنا شيء من آثار اقتحام اليهود فيه وإرهابهم للمصلين والمعتكفين، فالمسجد الآن بيد المسلمين، والحمد لله على آلائه، واتجهنا إلى قبة الصخرة، وولجناها وصليت بأصحابي ركعتي الظهر، والقبة هي مصلى النساء في شهر رمضان، يدخل فيها الرجال أيضًا في غير وقت الصلاة، وكان مكتظا بالنساء يصلين ويقرأن القرآن، والجو كله يغشاه سحابة من الرحمة والروحانية.

ثم زرنا مسجد البراق، وباب المغاربة، والمسجد القبلي، والمكتبة التي تحته، والمسجد المرواني، واستغرقت الزيارة وقتا طويلا.

خرجنا في الساعة الثالثة من باب السلسلة ومشينا من خلال حارة اليهود واتجهنا إلى حائط المبكى، فإذا الموقع قد حظر فيه دخول الزائرين موقتا، فصعدنا منزلا مشرفا على المبكى، ورأينا اليهود متعلقين بالجدار يبكون ويتحركون ويقرأون من كتابهم ما بدا لهم أن يقرأوا ويدعون ما يستطيبون من الدعوات.

ثم سلكنا في حارة المسلمين، وزرنا كنيسة القيامة، وآلمني سجود النصارى على موضع مسطح مماثل لضريح، يبكون عليه متهافتين، فسألت بعضهم عن ذلك، فقال: هذا مدفن المسيح عليه السلام، نعوذ بالله من الشرك والأباطيل والأكاذيب، ثم دخلنا مسجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصلينا فيه العصر.

ومررنا بحارة النصارى، وحارة الأرمن، وحارة اليهوده صاعدين وهابطين، حتى ارتفعنا إلى جبل صهيون، وزرنا مكانا يزعم النصارى أن المسيح عليه السلام تعشى فيه عشاءه الأخير، وهو الآن مسجد، فيه محراب ومنبر، وآيات القرآن منقوشة عليه، ولكنهم حولوه إلى أثر سياحي، ولا يسمح بالصلاة فيه، وقد رأينا مساجد أخرى حولت إلى بيوت للمستوطنين اليهود، أو خمارات أو غير ذلك، وقال لنا دليلنا: إن المساجد المخربة في بيت المقدس يبلغ عددها مائة أو أكثر.

وزرنا هنا في جبل صهيون ضريحا يسمونه مقام النبي داود عليه السلام، وقد حولته اليهود إلى مزار خاص لهم، رأيناهم يقرأون عنده ويدعون في عدد كبير، وهؤلاء يهود أرثوذكس متشددون، كلما رأوا امرأة من مجموعتنا وقفوا وغضوا أبصارهم، فإذا غابت عن عينهم مشوا، فإنهم يعتقدون أن المرأة إذا كانت حائضا ووقع عليها بصرهم حرمت عليهم العبادة، ولا يسعهم أن يسألوا المرأة أهي حائض أم لا؟ فيعاملون النساء كلهن معاملة النساء الحيض، فحمدنا الله على نعمة الإسلام وأنه وضع عنا الأغلال التي كبلت بها اليهود، إنهم شددوا فشدد الله عليهم.

نظافة بيت المقدس:

البيوت في بيت المقدس كلها حجرية، لا يسمح فيها باللبن أو الآجر، والشوارع كلها مبلطة بالحجارة، وكل ما في المدينة ينبئ بالعتاقة، وأكبر ما استلفت أنظارنا هي نظافة الشوارع والبيوت، فما رأينا مدينة في الشرق أو الغرب تشبه بيت المقدس في النظافة، لا ترى في شوارعه قاذورة، بل لا ورقة، ولا قذى أو أذى، يا ليت المسلمين تقيدوا بهذه النظافة في عامة بلادهم وأراضيهم فدينهم دين الطهارة والنزاهة.

اختلاط اليهود والنصارى والمسلمين:

الظاهرة التي يواجهها هنا كل زائر هي اختلاط اليهود والنصارى والمسلمين محتكا بعضهم ببعض، فلم نمر بحارة أو شارع إلا والشعوب الثلاثة متخالطة ومتلاصقة، بيد أن هنا نوعا من التقارب بين النصارى والمسلمين، ونوعا من التنافر بينهم وبين اليهود، أعوذ بالخالق من معشر إذا نالوا سلطة كان الجور والظلم ديدنهم، وإذا أعطوا نعمة لم تدم عليهم، وما أشقى المتشكِّين من طغيان الفراعنة وهم لآثارهم مقتفون، وما أتعس العدائين إلى الفتن وهم بنيرانها مضطرمون، دنياهم نار بلا جنة، والناس منهم في عذاب أليم، لا أقضي عجبي من خلق كأن الشر أصل في طباعهم منتهجي سنن الذئاب الضواري والحيات والعقارب.

وخُبِّرنا أن مفتاح كنيسة القيامة بيد مسلم توارثه جيلا عن جيل، هو الذي يفتح الكنيسة في الصباح، ويغلقها في المساء، وسبب ذلك أن طوائف النصارى تشاجروا قديما فيمن يملك المفتاح، ولم تحل المشكلة، فأعطاه بعض الملوك لرجل مسلم يتولى ذلك المفتاح.

عزيمة الفلسطينينين:

مما يستغرب الزائر هو علو همة المسلمين الفلسطينيين وعزيمتهم، إنهم ضعفاء سياسيا وعسكريا وماليا، وقد خذلهم إخوانهم، ولكنهم مع ذلك صامدون، لهم إصرار سما في بيت مجد، عديم مثالهم، ومنقطع نظيرهم، ولهم سمات تعرفها لهم قبائل معد وبطون عدنان، ولهم سوابق يشهد بها العراق والشامات، ولهم بطولات يخضع لها المصريون واليمانيون، ولهم أفعال يفتخر بها المسلمون عربا وعجما وشرقا وغربا.

إن الأمور كلها تجري بأمر الله، والقضاء كله ينفذ بإذنه، فكم وجم المفرطون في الضحك، وكم ضحك الواجمون بعد طول التمادي في الوجوم، فيا عباد الله أطيعوا ربكم واصبروا، فليس الغد الحامل البشرى ببعيد.

التعليقات مغلقة.