إيمانويل لفيناس وجان لوك ماريون: إتيقا الحب كمدخل للعيش المشترك (1)
الأستاذة فايزة بغياني
مقدمة:
يبدوا أن الحضارة البرومثيوسية حضارة العولمة والحداثة الفائقة قد جعلت الإنسان الغربي يعتقد أنه بطل الوجود التراجيدي لأنه الوحيد الذي استجاب لنداء العقل، وهذا ما أكده خطاب الحداثة والأنوار غير أن العقل الذي حرر الإنسان من قبل من أغلال اللاهوت، جعله اليوم عبدا لقوة تتحداه لم يبقى حرا إزاءها ونقصد التقنية فقد خرج اليوم من شكله الأكثر نعومة الى شكله الأكثر خشونة وتواضعا بل والأكثر قبحا، فما نسميه اليوم بالعقل الرقمي Raison Numérique هو تطور طبيعي لمسار عقل الأنوار الذي شيد مجتمعا جديدا ونقصد المجتمع الأثيري Virtuel والسيبرنتيكي Cybernétique والكوكبيUniversel ، ما عمل على إفراغ العالم من كل ما هو قيمي وإنساني فقد تشيأت العلاقات وكف العقل عن الرؤيا ليصبح عقل أعمى عاجز عن رؤية الجانب القيمي المهم للإتيقا والدين، ودورهما الكبير في أنسنة الإنسانية في الإنسان.
ذلك أن خلع القيم من وجدان الإنسان الحديث جعله مطموس الهوية غير محدد الملامح، انه إنسان مهجن ومتأله الإنسان الآلةLhomme machine كما اسماه لاميتري أو الإنسان العصبوي Lhomme aléatoire عند جان بير شانغو، الأمر الذي أفقد الإنسان إنسانيته وفتح المجال لليأس والاستسلام وحديث النهايات، نهاية التاريخ ونهاية الإنسان بعدما قتل نيتشه الإله فقد صار الإنسان حسب البنيوية مفهوم بال يقف عائقا أمام الدقة العلمية المرجوة لابد من إزاحته من أجل بلوغ الصرامة العلمية المرجوة.
الأمر الذي جعل سلطة الذات تتلاشى أمام شبح التقنية ومجتمع الاستهلاك واقتصاد السوق، لتحل النزعة الآلية والاستهلاكية بدلا من النزعة الإنسانية غير أن النزعة الآلية هي في حقيقة الأمر سليلة نزعة التمركز والتسلط والتعالي، تعالي الذات إزاء الآخر الهامشي الذي جردته من حق الانتساب إلى الإنسانية ما دفعنا إلى التفكير في اتيقا مناسبة لتأسيس حياة تشاركية، بحيث لا تطغى فيها الذات على الآخر ولا الآخر على الذات لتعيد إحياء الجانب القيمي الروحي للإنسان أي ما تبقى من إنسانيته، في عصر اشتد فيه عنف التمركز نتيجة تغيير نمط الحياة على الأرض والتهديد الذي يلوح في الأفق القريب للتواجد الإنسي، بسبب القحط المفزع داخل المنظومة القيمية للإنسان، ربما لافتقاره للغة الحوار والتسامح والاعتراف والسلم والإحسان والحب، هذا الأخير الذي أصبحت الفلسفة صامتة تجاهه مثلما يقول جان لوك ماريون فقد تخلت عن اسمها كمحبة للحكمة من اجل اسم الميتافيزيقا أو المعرفة، غير أن الصمت أحيانا أفضل لها إذا كانت في حديثها عنه تسيء إليه أو تخونه، فقد تخلى الفلاسفة عن الحب وجردوه من المفهوم، بل ألقوا به في الهوامش المظلمة لعقلهم مع المكبوت والمسكوت عنه، مادام هذا المفهوم أصبح يثير التهكم والسخرية في مجتمع العولمة والمثقفين، من هنا انبعثت فلسفة ايمانويل لفيناس وجان لوك ماريون اللذان حاولا ان يعيدا للحب اعتباره لتتحدد ملامحه كاتيقا الضيافة والمسؤولية نحو الآخر وعليه: ما هي المهمة الملقاة على عاتق الفلسفة؟ هل ننغمس في ثقافة الغرب، ثقافة التمركز والانغلاق على الذات فنستسلم لميلاد هيمنة ثقافة العولمة؟ كيف نعيد تأسيس مفهوم الذات والآخر؟ هل الانفتاح على ثقافة الآخر يستلزم الخروج النهائي من الذات؟ كيف نؤسس لطرق العيش المشترك من خلال اتيقا الحب؟ كيف تتحدد ملامحها؟ وهل الحب واحد أم متعدد؟ وكيف تساهم هذه الاتيقا في ترميم انكسارات وشروخ الحضارة الغربية؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه نحن و الفيلسوفان الفرنسيان ايمانويل لفيناس وجان لوك ماريون في النقاط التالية:
1_أزمة العولمة أو خطر التمركز.
2_التنوع الثقافي والاختلاف أساس كل ايتيقا.
3_الآخرية وظاهرة الحب.
1_أزمة العولمة أو خطر التمركز:
يبدوا أن التمركز حول الذات صفة ملازمة لحضارة العولمة المتفوقة والتي روت لنا أسطورة الأنا أفكر المستعمرة للطبيعة، الغير مبالية بالعالم والآخرين معتمدة منطق الإقصاء والتبسيط والاختزالية والتقوقع، فالغرب هو المثال والأنموذج الوحيد الذي يجب الاحتذاء به يوجد لونه فقط لا مكان للألوان وللخصوصيات الثقافية الأخرى فهذا ما عملت ثقافة العولمة ومجتمع الاستهلاك واقتصاد السوق منذ عهود نشأتها على تكريسه والسعي لتحقيقه.
لذلك كانت العولمة ولا تزال سببا في خلق أزمات لا تتوقف عن التكاثر وتسير في توسع لا نظير له، فقد أصبت تهدد العالم بالفوضى والعنف بل بالسديم وقد صارت أشكال التطور الواقعة في العلوم والتقنيات والصناعة والاقتصاد والتي تعبر عن تفوق الذات على الآخر هي المحرك اليوم للمركبة الفضائية الأرض، والتي لا يحكمها شيء من سياسة ولا أخلاق ولا فكر [1] .
وهذا ما أكده ادغار موران أثناء وصفه للتقنية:” تلك الهمجية الباردة الصقيع المتمثلة في التقنية الخاصة بحضارتنا. وان تحالف الهمجيتين لما يتهدد كوكب الأرض”[2] بيتنا المشترك، لقد تحولت العقلنة الى شر مخيف وجنونها موجود اليوم في أروقة المعرفة وأركان الوجود وحقول التجربة الإنسانية فقد تسببت بالحروب والظلم والاستعمار وانتهاك الخصوصيات، فالحضارة الغربية عبرت عن همجية الإنسان الصناعي المتمركز وكل هذا حدث باسم العقل والتقنية والثورة الرقمية والعولمة[3].
إنها الصورة الكاريكاتورية لمجتمع تنخره العولمة، تلك الحضارة التي تشدقت بمفهوم الأنوار والأنسنة والحرية لكن نحن نعلم جيدا ان الأنسنة الأوروبية كانت عودة للاشتغال على المتن اليوناني اي النصوص التأسيسية الأولى لبث نفس الحاضر فيها، وخصوصا نصوص ارسطو وأفلاطون الذين اعلوا من قيمة الإنسان وبخاصة الإنسان اليوناني القديم أين نلمس الجذور الأولى للمركزية الغربية(التمركز حول الذات)، وهذا ما عملت انسانوية النهضة ومن بعد انسانوية الأنوار مع كانط و فيخته وشيلينغ على مواصلته فالأنسنة كانت بمثابة مادة تهذيبية تدرس للارتقاء بالإنسان الأوروبي الى أعلى مراتب الوجود، ليتميز عن الحيوان وباقي الشعوب الأخرى[4].
فقد صار الإنسان الغربي مثلما يقول لوك فيري هو المقدس والمحترم وان لم يكن متمتعا بروح خالدة، فعلى الأقل صار يتمتع بكرامة مطلقة تمكنه ان يصبح سيد الوجود وملك على الطبيعة من خلال الاستماع الى نصح العقل، الذي كان يعمل على إنعاش نتائج العلم، وهنا كان ميلاد الحداثة الفائقة التي تجلت في ثلاثة أساطير كبرى: أول هذه الأساطير هي أسطورة التحكم في الكون التي قال بها ديكارت حسب مقولته الشهيرة نحن أسياد الطبيعة ومالكيها، و ثاني أسطورة هي التقدم والضرورة التاريخية التي فرضت نفسها مع كوندورسي وثالث هذه الأساطير هي السعادة [5].
ذلك أن مشروع الحداثة تحول لأسطورة لأنه ألحق بالبشرية عذابات ومآسي تعجز الكتب الضخمة عن حملها، ليصبح المستقبل نفسه في أزمة بسبب تماهي العقل مع ضده”إن التكهن الذي نربط فيه بين تحول التنوير إلى الوضعية، والى أسطرة ما هو موجود و أخيرا التماهي بين العقل وما هو ضده، أمر تحقق الآن بطريقة واضحة جدا”[6] ، نتيجة لتعالي الذات الغربية ازاء الآخر، الذي أحالته لمجرد مكون هامشي بمساعدة العلم فمشروع السلام الدائم لكانط تحول لعنف مسلط ضد الآخر فحرية الأنوار لم تكن سلاما معه بل قمعا له ومحاولة لتملكه.
الأمر الذي كاد أن يشطب انسانوية الإنسان نهائيا من الوجود يقول لوك فيري هنا:” فقد رأيت في حياتي فرنسيين وايطاليين وروسا، الخ، بل أعلم بفضل مونتسكيو، انه قد يكون الشخص فارسيا. أما عن الإنسان، فاني أصرح أني لم التقي به أبدا في حياتي، وان وجد، يكون ذلك بالتأكيد دون علمي”[7] فأساطير فرانكشتاين والشخص المتهور شهدت انتعاشا من جديد، تلك الأساطير التي روت لنا قصة مخلوق مسخ أو سحري يفلت شيئا فشيئا من خالقه ويهدد بتخريب الأرض[8] انه الإنسان الغربي المتأله الذي أحكم قبضته على العالم واحتل مركز الوجود، فقد أجبر الإله أن يترك له مكانه ليغادر الإله السماء على حد تعبير هيغل ليصبح محايثا.
فحضارة العولمة جعلت سكانها يتلاشون روحيا وقيميا وأخلاقيا فصار الإنسان ذا بعد واحد على حد تعبير هاربرت ماركيوز وهو بعد مادي وهو ما يؤكده قول ميشال فوكو سابقا:”الإنسان قد انمحى مثل نهاية البحر على وجه الرمال”[9] فالإنسان اختراع حديث قد شارف على نهايته وقد صار مهترئا لأنه فقد جميع صفاته الإنسانية.
ربما كان ذلك نتيجة لشدة إعجاب المجتمع الغربي الحديث بالمبدأ الذي صاغه داروين”الصراع من أجل البقاء” البيولوجيا الداروينية، والتي كانت حسب والتر بينيامين تطورا طبيعيا لمشروع الأنوار كما تبلور مع أصحاب نظريات العقد الاجتماعي والحق الطبيعي التي تمنح الأولوية للحياة الطبيعية على الحياة القيمية والروحية، والتي تتشدق بمفهوم التقدم الذي لا يعبر إلا غريزة بهموتية وهي في الحقيقة مجرد دوغما النجاح في التاريخ الطبيعي[10]، على حساب الآخر الذي اغتصبت إنسانيته ومنع من حق أن يكون هو نفسه، فقد حاولت الذات الغربية بشتى الطرق ان تبتلعه وتقحمه ضمن منطقها المونادولوجي والاختزالي .
فنحن لا يمكن أن نفصل أحداث العنف أي الجرح التاريخي الذي أصاب البشرية الناجم عن الحداثة الغربية وصيرورة التهذيب الحضاري، والتي عبرت عن فشل انسانية الأنوار وانحراف مسار التقدم، فهذا الحدث التاريخي يستلزم منا مراجعة مشروع الأنوار وهذا ما عمل على الاشتغال عليه عالم الاجتماع البولوني زيجمونت باومان الذي قدم وصفا رائعا لمرحلة التحطيم الذاتي التي بلغها عقل الأنوار والتي تجسدت في المحرقة أو الهلوكوست، هي مرحلة كما يقول:” أكبر من مجرد شذوذ، وأكبر من مجرد أن تكون انحراف عن الطريق المستقيم للتقدم، وأكبر من مجرد ورم سرطاني في الجسم السليم للمجتمع الغربي المتحضر، اننا نخشى- حتى ولو رفضنا الإقرار بذلك-أن تكون الهولوكوست قد استطاعت أن تكشف وجها جديدا للمجتمع الحديث الذي يروقنا وجهه المألوف”[11]انه الوجه البشع والقبيح الذي يختبئ خلف الوجه الجميل المتشدق بكل الشعارات الانسانية فهما وجهان متصلان لا ينفصلان مثل وجهي العملة الواحدة.
لقد حان الوقت لنعيد ترتيب أرضنا بيتنا المشترك، ونضع حدودا للإنسان المتأله ولثقافة التنميط(العولمة) لنتفهم الغير الشريك في الإنسانية فتتقاسم الذات مع الآخر معاناته ضمن أفق مفاهيم التعاطف والحب والشفقة، لنخرج من العقلانية الأداتية ونتمكن من مجاوزة مضاعفاتها السلبية التي ترى بأن المعرفة والذكاء يستلزم إقصاء العواطف والحب ومعهما الآخر.
2_التنوع والاختلاف الثقافي أساس كل اتيقا:
لقد كانت حضارة العولمة موضوع مراجعة من طرف العديد من الفلاسفة أمثال ايمانويل لفيناس، والذي أفرد أغلب مؤلفاته لنقد حضارة التمركز فهو فيلسوف الغيرية بامتياز، غير ان فلسفة الغيرية لا تعني الخروج الراديكالي من الذات فالنقد اللفيناسي لا يسعي من خلاله تحطيم الذات أو التشنيع بها، فهو نقد اتيقي يسعي من خلاله أن يذكرها ببعدها الوجداني الايتيقي يقول في كتابه الأساس الكلية واللانهائي:” الذاتية الطاهرة اندثرت وماتت بسبب عنف التاريح، الحرب وقانونها القاسي ففلسفة اللانهائي لا تتعارض مطلقا مع الذات الطاهرة، الضعيفة، العاجزة، فهذا الكتاب Totalité et infini بمثابة دفاع عن الذاتية ورد على اللذين اعتبروا فلسفة الغيرية تستلزم دحض وتجاوز الذاتية، لكن الذات التي نقصدها هنا هي التي لا تتعارض مع اللانهائي”[12]. أي لا تتعارض مع الاتيقا كفلسفة أولى.
فما يريد قوله لفيناس أن الانفتاح على ثقافة الآخر لا يستلزم أبدا الخروج الراديكالي أو التخلي عن ثقافة الذات، بحيث يجب أن يحكم هذه العلاقة أساس اتيقي لأن الايتيقا تقوم على اساس احترام خصوصية الآخر وهي القاعدة الأساسية لكل علاقة سليمة مع الآخر.
فالآخر هو شبح الأنا وظلها الدائم كما يقول جاك دريدا الآخر النظير والمختلف، نظير لنا لأننا كلنا إنسان نشترك في الإنسانية السقف الرمزي الأعظم المتبقي لنا، ومختلف عنا بتميزه الثقافي واختلافه الديني والعرقي، انغلاق الذات على ذاتها يجعل الآخر غريبا عنها أما بانفتاحها تجعله أخا لها[13]وشريكا في مشروع العيش المشترك لكن الذات هنا لا ينبغي لها أن لا تبالغ في الانفتاح فتقد شخصيتها وهويتها، ولا تبالغ في الانغلاق فتنكمش وتذبل لتغرق في الدوغمائية والتعصب، لا بد أن تنفتح وتنغلق في الآن لأن التنوع هو شرط الحياة الاجتماعية، لترى الذات كل الألوان الأخرى المختلفة عن لونها فلا يوجد اللون الأسود أو الأبيض فقط يوجد في مكان ما قوس قزح.
والاتيقا هي الأفق الذي تتحرك فيه جدلية الذات والآخر فهي كما يصفها:”استعداد للانفتاح على الآخر القريب(الآتي المقبل)، علاقة قرب، جوار، تجاه من نحن مسؤولون عنه، الآخر الذي يحاصرني، يزعجني، هي مسؤولية مستغرقة تجاه الآخر…أنا رهينه له، ارتهان غير مشروط في الأزمة الأخلاقية الحالية”[14].
اذ لا يوجد بيت دون جوار، ولا توجد ذات دون ذات أخرى تحفزها على بلوغ هويتها، وتساعدها على التشكل من جديد من خلال المسؤولية، ما سيخضع مبدأ الهوية للاختلاف فنحن لا نستطيع ان نختار من نتعايش معهم كما تقول شارحة نصوص ايمانويل لفيناس جوديث بتلر، فاذا حاولنا الاختيار حيث اللااختيار سندمر حياتنا الاجتماعية والأخلاقية ، فقبول الآخر هو الشرط الأساسي للوجود الآمن في العالم، وهنا ستناقش بتلر مسالة العيش سويا بين جماعات مختلفة انثربولوجيا وقوميا ودينيا وحتى سياسيا ف:” التعايش المشترك يسبق أية إمكانية لوجود جماعة أو امة أو محلة”[15]
إنها الطبيعة اللاانتقائية للعيش المشترك فالآخر فرع وجزء من الأنا لا يفارقها، انه المصير المؤجل للهوية وحسن الجوار هوالأساس الذي ينبغي الانطلاق منه لبناء دولة عادلة ثلما تؤكد بقولها:” ما ارمي إليه اقتراح أن التعايش يمكن أن يفهم بوصفه شكلا من أشكال التقاء المنافي، ولكننا نخطئ أن نحن تخلينا أن هذا الالتقاء يجب أن يتخذ شكل التماثل الصارم”[16]
تحدثت كل من بتلر ولفيناس عن ذات مطوقة بالغيرية، فالآخر كما يقول لفيناس أنا مسؤول نحوه بإطلاق مسؤولية غير مشروطة دون مقدار ودون ثمن، لتتسع دائرة المسؤولية وتصبح ارتهان للآخر فتسهر الذات على ضعفه وهشاشته ومعاناته وألمه، فتخشى على موته أكثر من خشيتها على موتها الخاص، ذلك أن اللامتناهي لا يحظر إلا في وجهه ليذكرني دوما بمسؤوليتي:” لا بد أن أملك جواب على موت الآخر، في عري الوجه، يجب أن أدافع عن اللامرئي في مواجهة موت الآخر، هو لا يتوقف عن تذكيري بمسؤوليتي، يتساءل عن سبب إلحاق الموت بالآخر”[17].
في الوجه نقرأ وصية تحريم العنف:”لا تقتل أبدا”[18]لاحترام خصوصيات الآخر، فالأمر الإلهي الذي يحفر بجاذبية لا تقاوم في عراء وفقر وهشاشة وضعف وبراءة الوجه رمز وحدة النوع البشري يطلب من الأنا ان تمتلك جواب على موت الآخر، وعن سبب العنف والتهميش الذي تعرض له الآخر، ليكون النداء بمثابة دفاع عن العدالة في وجه الآخر التي تطلب إنصاف هذا المهمش والمضطهد والمنسي.
كما أن الحديث عن خطاب فلسفة اللانهائي أو ميتافيزيقا التعالي كما يسميها لفيناس لا يستلزم فقط حضور مفاهيم الغيرية وحسن الاستقبال والضيافة بل هو خطاب يستلزم منا الحديث عن الحب كشرط مقوم لكل ايتيقا فمثلما يقول لفيناس:” والمطلوب هنا أن نظهر كيف يتم التعالي من خلال الحب، التعالي الذي يكون تارة قريب جدا وتارة بعيد جدا: الحب لا يتعلق بشخص واحد؟ فهو يستلزم وجود طرفي معادلة ونقصد الذات والآخر، فهو يتجه دوما نحو الآخر، الآخر الصديق والطفل والأم والحبيب والآباء، فالحب يخص الإنسان وحده وليس الأشياء”[19].
ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات هو كونه محب، فمن خلاله ينفصل عن مملكة الحيوان وباقي الكائنات ليتعالى عن الطبيعة، وعالم الجمادات فهو الجانب القيمي المؤنسن للإنسان فبالحب يصبح إنسان، فهو الشيء الوحيد الذي يصاحب الذات حيثما ارتحلت والذي يعني حب الآخرين أو حب الفن والعدالة حب الحقيقة لتشييد مشرع الحياة[20] هو الكفيل ببناء حياة تليق بالإنسان حيث يكسر وحدانية الأنا لتحمل الذات الآخر في طياتها حيثما حلت، فتتحول الحياة الفردية الى حياة فريدة من نوعها، للمصالحة بين الرغبات والتطلبات الخصوصية والتطلعات الكونية.
لتشييد إنسانية ضمن افق حياة تشاركية تنبني على اتيقا الحب، التي لها لهجتها الروحانية فهي تؤول الإحساس في لغة شاعرية جميلة[21]، فالحديث عن الحب هو حديث العطاء و الإخلاص والصداقة، انه إخصاب متبادل بين الذات والآخر يعبر عن رغبة ملحة في التشارك وبناء حياة معا، فهو في صميمه ثورة على كل الفلسفات العدمية لأنه علو وتسامي على التشيؤ ميزة مجتمع الاستهلاك، الذي تصلبت أوردته وشرايينه بعدما تشيأت العلاقات.
[1] -ادغار موران، هل نسير الى الهاوية؟،ترجمة عبد الرحيم حزل، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2012م، ص11.
[2] -مرجع نفسه، ص12.
[3] -زهير الخويلدي، معان فلسفية، دار الفرقد، دمشق، ط1، 2009، ص53.
[4] _ Grand dictionnaire de la philosophie , Larouse,cnrs Edition, 2005,p.491.
[5] _أدغار موران، النهج(انسانية البشرية، الهوية البشرية)، ترجمةهناء صبحي، هيئة ابوظبي للثقافة والتراث، ابوظبي، الامارات العربية المتحدة، ط1، 2009، ص25.
[6] _ماكس هوركهايمر-ثيودورف_ادورنو، جدل التنوير، ترجمة جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2006، ص6.
[7] _لوك فيري بالتعاون مع كلود كيلياي، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ترجمة محمود بن جماعة، دار التنوير للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص239.
[8] -مرجع نفسه، ص318.
[9] -Michel Foucault, Les mots et les choses, Gallimard, Paris, 1966, p.398.
[10] -Walter Benjamin, Œuvres, traduit, Maurice de Gandillac, Pierre Rusch, Rainer Rochiltz, folio essais, A D A G P, catégoire, 2000, p.211-212.
[11] -زيجمونت باومان، الحداثة والهولوكوست، ترجمة حجاج ابو جبر ودينا رمضان، مدارات للأبحاث والننشر، القاهرة، 2014، ص59.
[12]– Emmanuel Levinas, Totalité et Infini( Essai sur l’extériorité), Kluwer Acadimic, 1996, p.11.
[13]-أدغار موران، النهج(انسانية البشرية، الهوية البشرية)، مرجع سابق، ص93.
[14] -Emmanuel Levinas, Le dieu, La mort et Le temps, Edition & Fasquelle, Paris, 1993, p.156.
[15] – جوديث بتلر واخرون، قوة الدين في المجال العام، ترجمة فلاح رحيم، دار التنوير للطباعة و النشر، ط1،2013، ص32.
[16] – مرجع نفسه، ص ص126،127.
[17] – Gérard Bailhache, Le sujet chez Emmanuel Levinas (Fragilité et subjectivité), PUF , édition 1, 1994, p.307.
[18] -Emmanuel Levinas, Totalité et infini, o.p. cit. p.211.
[19] -Emmanuel Levinas, Totalité et infini, op. cit. P.285.
[20] _Luck Ferry, Vaincre les peurs, La philosophie comme amour de la sagesse, Odile jacob, Paris,2006,p280 .
[21] – . Emmanuel Levinas, Totalité et infin, op.cit, P.285
التعليقات مغلقة.