علاقة الفن والجمال بإرادة القوة عند نيتشه

حفيظة المراس

إن الحديث عن إشكالية علاقة الفن والجمال بإرادة القوة عند نيتشه، يستلزم أولا ضرورة التعريف بنيتشه؛ لأن فلسفته مرتبطة بما كان يعيشه، وليست فلسفة هلامية خارج الذات النتشوية. فنيتشه هو فيلسوف ألماني ومن أهم فلاسفة العصر الحديث، عاش وترعرع في عائلة متدينة كانت تعده ليكون قسا كما كان يرغب بذلك والده، لكن بعد وفاة والده ودخوله للجامعة تحدى نيتشه المسيحية، واعتبر أن الإله على الصليب هو لعنة على الحياة، وأعلن ثورة على الأخلاق والمثل، وبدأ يكسر الأصنام التي أولت للعقل مركزا للوجود الإنساني، وحاولت وأد الجسد و قتل الغرائز الإنسانية، ليعيد نيتشه للجسد صرخته الوجودية معليا بذلك الغرائز الإنسانية على الروح، ومنتقدا للعقلية العلمية الصارمة التي تقدس العقل على حساب الحياة والجسد. فانطلقت نظرته إلى الحياة وفق أسس مادية فزيولوجية تحتفي بالجسد وغرائزه واحتياجاته المادية أولا، فنيتشه هنا  يعتبر أن مهاجمة النزوات من الجدر هو مهاجمة للحياة من الجدر[1]، وبالتالي فهو يؤكد مرة أخرى على أن الغرائز والشهوات هي ما تعزز ضرورة الحياة.

فلطالما كانت فلسفة نيتشه فلسفة ملهمة للفلاسفة والمفكرين، والموسيقيين وغيرهم من صناع الفكر والأدب والإبداع كون فلسفته كما سبق الذكر أعلت من الإنسان، لهذا تعتبر فلسفه وجودية لاحتفائها بالإنسان في ذاته. فثورة نيتشه الجينالوجية أدت إلى قلب القيم، وزعزعة الجذور الدينية والميتافيزيقية التي اتكأت عليها الأخلاق، ودعتإلى التخلص من الثوابت والمسلمات التي جمدت الإرادة الإنسانية وأدت إلى العدمية ونفي الحياة[2]، وعلى هذا الأساس بنيت فلسفة نيتشه على ثلاثة مبادئ أساسية:

  1. الأوبرمنش؛ الإنسان المتفوق أو الإنسان الأعلى، السوبرمان،
  2. إرادة القوة،
  3. والعود الأبدي

فالإنسان الأعلى الذي يقصده نيتشه هنا هو من يعيد للحياة قيمتها، لأن الآلهة قد ماتت وبالتالي على الإنسان أن يحكٍم إرادة القوة من أجل أن يكون هو الإنسان الأعلى والمتفوق أو بالأحرى أن يكون السوبرمان هو المحرك الفعلي للحياة والذي مثله نيتشه في شخص زراداشت.

وبالتالي نجد أن مبادئ فلسفة نيتشه هي مبادئ مترابطة فيما بينها؛ أي أنه للوصول إلى هذا الإنسان الأعلى لابد من الإيمان بإرادة القوة التي تنبع من الوجود والإيمان بالحياة. فليس الوجود إلا حياة، وليست الحياة إلا إرادة، وليست الإرادة إلا إرادة القوة[3]، وبمقدار شعورنا بالحياة والقوة يكون إدراكنا للوجود. والقوة التي يقصدها نيتشه بشكل مباشر هي قوة فيزيائية، لتتحد مع الإرادة كمعطى سيكولوجي، ويشكلان بذلك الإنسان الأوبرمنش الذي يتنبأ بظهوره إذا ما تخلص الإنسان من ظل الإله بعد قتله، أما إن بقي يعيش خلف طلال الإله فلن يتم تحقيق الإنسان الأعلى الذي نادى به نيتشه .

إن إرادة القوة عند نيتشه هي نقيض إرادة الحياة عند شوبنهاور لأن الأول تتجسد إرادة القوة لديه من خلال إعلاء الحياة الإنسانية، أما الثاني فهو يرى أن إرادة الحياة تستلزم العزف عن الحياة نفسها لأنها تولد الألم، في حين أن نيتشه يرى في الألم مكمنا للإبداع والانتشاء، والألم مستلهم من روح المأساة هذه الأخيرة هي التي توصل إلى الانتشاءوالاكتمال المنتج للفن الذي يعتبر حسب نيتشه فائض الإرادة، وهو ما يعيد للإرادة قوتها، وبالتالي الفن عند نيتشه هو حافز لإرادة القوة، ومثير للإرادة[4]، التي تنبني على تحرر الرغبات الإنسانية التي مثلها نيتشه في الإله ديونيزوس كونه إله النشوة والموسيقى والحياة، فلطالما كان نيتشه متأثرا بالفلسفة اليونانية ما قبل سقراط، معتبرا اليونان هي الحضارة والفلاسفة ما قبل سقراط هم من يجسدون مظاهر الإله ديونيزوس، فانصرف إلى دراسة الفيلولوجيا اليونانية القديمة، ويعنى بها دراسة الحضارة اليونانية بكلتفاصيلها، من أدب وفن ولغة وأثار، والإنتاجات الفكرية كلها، من أجل أن ينفذ إلى جوهر الديونيزوسية ،ونظرته للحياة، لتصبح نظرة نيتشه للحياة هي نفسها نظرة ديونيزوس[5].

إن الفن عند نيتشه يستمد قوته من ديونيزوس إله الموسيقى والنشوة والتحرر، وهذا ما أشار إليه في كتابه الأول ميلاد التراجيديا معبرا من خلاله  عن تصوراته للفن والأدب والفكر، متحدثا بذلك عن كل من إله العقل أبولو وإله الرغبة ديونيزوساللذان يعيشان في صراع دائم لكنهما يمشيان جنبا إلى جنب، يختلفان في المظهر ويتوحدان في الفن، كون الإله أبولو يمثل فن النحت والإله ديونيزوس يمثل فن الموسيقى[6]، بالإضافة إلى حديثه عن موت التراجيديا بسبب محاولة تغليب إله العقل أبولو على إله الرغبة ديونيزوس ليختل بذلك التوازن الذي كانا يعيشانه قبل تدخل بعض الفلسفات التي أفسدته، منتقدا بذلك الفلسفات اليونانية ما بعد سقراط التي أولت للعقل أهمية أكثر من الجسد، وعلى سبيل المثال أفلاطون الذي طرد الشعراء والأدباء من جمهوريته باعتبارهم غير نافعين.

فقد قام نيتشه بإهداء كتابه ميلاد التراجيديا إلى صديقه الموسيقار فاغنر، كون الموسيقى عند نيتشه أسمى تعبير عن روح التراجيديا وهي الخلاص، لأنها تصور الحياة في مدها وجزرها، وفي ظلالها ومتناقضاتها وفي كل أحوالها المضطربة[7]، فأعجب نيتشه بموسيقى فاغنر كونها تجسد نظرة أستاذه شوبنهاور للفن، الذي انقلب عليه فيما بعد، إضافة إلى انقلابه على فاغنر، لأن طبيعة فلسفة نيتشه قائمة على البحث الدائم على الإنسان الأعلى، والذي يتطلب عدم تقديس شخص بعينه، ونيتشه نفسه يطلب بعدم الإيمان بهوتقديسه، ليحقق بذلك الفكرة المنشودة في ظهور مخلص الإنسانية السوبرمان .

وبالتالي فقد شكل كتاب ميلاد التراجيديا إسهابا قويا حول فكرة الفن التي تجسدت في ثنائية أبولو وديونيزوس، ثنائية فن النحت وفن الموسيقى التي تعبر عن ألمنا، ويقول نيتشه هنا أنه بالرغم من مقاومة الإرادة اليونانية ملكة التألم، وملكة حكمة التألم، إلا أنها ملكة متلازمة مع الموهبة الفنية[8].  والإبداع هو وليد للألم حسب نيتشه لأنه لا يجمل الواقع بل يظهره كما هو دون إضفاء أي تعديل عليه، لهذا شكلت الموسيقى أسمى تعبير عما يعيشه الإنسان من وجع وتقلبات وغيره. إذا الفن عند نيتشه ليس فقط هو نتاج فنان بل هو الحياة والواقع كما هو، ليشكل بذلك فائضا إرادة للقوة التي تعمل دائما على إثبات الذات الإنسانية بكل ما تشوبها من غرائز. وبالتالي فإرادة القوة عند نيتشه هي جوهر الوجود الإنساني، ومن خلالها يمكن تفسير كل مظاهر الحياة.

[1]نهلة محمود علي الجمزاوي، قراءة في مبادئ فلسفة نيتشه. المجلد الأردنية للعلوم الاجتماعية، المجلد 10 ، العدد 3، 2017، ص 366.

[2]نهلة محمود علي الجمزاوي(نفس المرجع) ص 359.

[3]عبد الرحمن بدوي ،نيتشه، (الكويت، وكالة المطبوعات للنشر، الطبعة الخامسة 1975) ص 216.

[4]جيل دولوز، نيتشه والفلسفة ، ترجمة، أسامة الحاج (بيروت-لبنان، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1993) ص 131.

[5]عبد الرحمن بدوي (مرجع سابق) ص 11.

[6]فردريك نيتشه، ميلاد التراجيديا، ترجمة، محمد الناجي (الدار البيضاء- المغرب، أفريقيا الشرق للنشر، طبعة 2011) ص 11.

[7]جيل دولوز (مرجع سابق)  ص 12.

[8]فريدريك نيتشه (مرجع سابق) ص 22.

التعليقات مغلقة.