إيمانويل لفيناس وجان لوك ماريون: إتيقا الحب كمدخل للعيش المشترك (2)

          الأستاذة فايزة بغياني

3_الآخرية وظاهرة الحب:

لكن المثير للأسف أن الفلسفة ضحت بالحب لصالح المعرفة، فالحديث عنه في مجتمع العولمة أصبح يثير التهكم والسخرية، فما يهم هو المصلحة والمنفعة الخاصة، يقول جان لوك ماريون في صمت الحب:”لم تعد الفلسفة تقول شيئا عن الحب، أو تقول القليل عنه، والصمت من ناحية أخرى أفضل لها مادامت عندما تخاطر بالحديث عنه، تسيء إليه أو تخونه…ولذلك فقد تخلى الفلاسفة عن الحب وجردوه من المفهوم، فألقوا به أخيرا في هوامشه المظلمة والمضطربة لعقلهم الكافي مع المكبوت وغير المقول والمسكوت عنه”[1].

لقد جعل جان لوك ماريون من اتيقا الحب مشروعا فلسفيا له مواصلا ما بدأه لفيناس بطريقة أخرى، فقد كان هجر سؤال الحب صادما خصوصا ونحن نعلم أن الفلسفة مشتقة من الحب ذاته ومنه فقط، فاسمها كمحبة للحكمة يشهد على ذلك، فهي مجبرة أن تبدأ من الحب سواء أحببنا أم كرهنا قبل ادعائها المعرفة والعلم ف”الفلسفة لا تفهم إلا بمقدار ما تحب، أحب أن أفهم، إذا أحب من أجل أن أفهم”[2]لكن التاريخ الفلسفي يشهد أن الفلسفة قد تخلت عن اسمها لصالح اسم المعرفة والميتافزيقا، هذه الطفرة الجذرية جعلتنا ننظر للكائن كموضوع كباقي الموضوعات فالسائد هو المعرفة فقط،  وقد كانت الرغبة في المعرفة ناتجة من اجل السيطرة على العالم ما فتح المجال أمام تطور العلم وبشكل ملازم لهيمنة التقنية على العالم، الأمر الذي حجب المعنى الغرامي ل”فيلوصوفيا”فالتاريخ ليس نسيان لسؤال الكينونة كما يقول هايدغر بل هو نسيان لسؤال الحب، انه نسيان بل صمت مشبع بالألم:”أما الحب الذي أقر نسيانه بلا شك في كل شيء، فقد نسيته الى حد النبذ؛ بل فقدت الرغبة فيه، ونظن أحيا أنها تكاد تكرهه. لا تحب الفلسفة الحب الذي يذكرها بأصلها وكرامتها وبضعفها وبطلاقهما. وعليه تمرره في صمت عندما لا تكرهه صراحة”[3]

لكن الحياة دون حب ستكون دون معنى بلا جدوى، والإنسان دون علاقة صداقة أو حب مع الآخر لا يساوي شيئا، فلابد أن تخصص الفلسفة مساحة للايروس للإجابة على نداء الأنا الذي يطلب الخروج من جحيمه أي سجن عزلته، فقضية:”جهنم هم الآخرون، كلها خاطئة، الجحيم نهاية الآخر، الجحيم يبدأ من الأنا”[4]فالحديث عن الحب هو حديث عن الغيرية، وحديث أيضا عن هشاشة وضعف الآخر، فأنا يحب هو أنا يخاف ويحذر على الآخر.

لكن اثناء حديثنا عن الحب لابد أن نحدد عن أي حب نريد أن نتحدث، فهل يتعلق الأمر بايروس  Erosونقصد الحب الأناني التملكي والغيور الذي يأخذ ويستهلك، أم بفيليا philia أي حب الصداقة الذي يبتهج بمجرد وجود الآخر؟ أم بأغابي Agapé ، أي الحب الذي يقدم مجانا دون مقابل ويمكن ان يتسع ليشمل حتى العدو[5]ونقصد به محبة رجال الدين، أي الالتزام الرهباني والدعوة لاعتزال الناس في سبيل الإله، بالتشجيع على الزهد لتحقيق الخلاص في الآخرة  والذي لا يكون إلا بمحبة المسيح، وتجاهل الحب الإنساني.

نحن نريد هنا الحديث عن الحب الايروسي الاتيقي الكوني الذي يتسع ليشمل جميع  البشر، هو حب يربط الذات بالآخر فهو حبا أرضيا قبل أن يكون سماويا له الدور الأساسي في بناء وتكوين الذات من جديد، فان:” وجود ال”أنت” لازم لإثبات “الأنا” فاليقين بوجود “الأنت” سابق على كل تجربة، …ان معرفة الذات لذاتها لا تحصل قبل معرفة الآخرين يكتسب الطفل أناه في البيئة ومنها لأن كل”أنا” هدية من “الآخرين” “.[6]، أنا الطفل لا يكتسبها إلا من خلال حب والديه له وأفراد المحيط الذي يعيش فيه.

من خلال الحب تولد الذات من جديد، وتتجذر في الأرض والواقع ليرسمها بشكل نهائي  فكل شيء يبدأ من الحب الذي لا يرتبط فقط بالمرأة فقط بل يتجه نحو الطفل، أي الابن، إنها الغيرية الخالصة طفلي الذي لا أملكه ولا أكون أسلوبه[7]، فالحب ليس تملك متبادل لشخصين يعيشان أنانية مشتركة لأنه خاص بجميع الناس.

لذلك وجب إعادة وضع تعريف جديد للإنسان من حيث كونه كائن محب من أجل أن:”ينكشف الإنسان لذاته من خلال الوضع الأصلي والجذري للحب_أن الإنسان محب وهذا ما يميزه حقا عن باقي الكائنات الفانية ان لم نقل الملائكة؛ لا يعرف الإنسان باللوغوس ولا بالموجود في ذاته، بل بكونه يحب(أو يكره)، سواء قبل ذلك أم لا. وحده الإنسان يحب في هذا العالم، فالحيوانات والحواسيب تفكر بشكل جيد أيضا، بل أفضل منه، لكنها لا تستطيع الجزم بأنها تحب، وبذلك فالإنسان حيوان محب”[8]

فعوضا عن انسانوية العولمة ومجتمع الاستهلاك يقترح ماريون انسانوية ثانية موسعة للغاية، وهي انسانوية كونية جديدة يشارك فيها جميع الناس قوامها اتيقا الحب المتسمة بالأخوة والتعاطف، والتي لا تضحي بالإنسان لفائدة المجتمع الصناعي أو الثروة أو حتى التقدم، فمن تقديس الاقتصاد والمنفعة والتقدم لابد أن ننتقل إلى تقديس القلوب وقيم الإحسان والتعاطف لعلها ستكون قيما كفيلة لعلاج أسقام الإنسانية لتأسيس طرق للعيش المشترك فنؤمن الخلود الحقيقي للبشرية.

خاتمة:

مجمل القول تيقنا بأنه لا يمكننا الحديث عن فلسفة العيش المشترك والتصدي لتمادي حضارة العولمة في الكون دون وجود طرفي معادلة وهما الذات والآخر، لإخراج الذات من جحيم عزلتها فتكون أكثر تواضعا وانفتاحا على الآخر الذي ليس هو عدوا ولا غريبا بل شريكا في مشروع الإنسانية، الأمر الكفيل بأن يغني ثقافة الذات من خلال تعرفها على أنماط ثقافية أخرى وألوان أخرى غير لونها، فلا وجود للون واحد وإلا لأصبح الوجود شاحب وبشع  وممل، أما عن الأساس الذي ينبغي أن يحكم العلاقة بين الذات والآخر فكل من لفيناس وماريون يقترحان اتيقا الحب على أساس أن الإنسان يتأنسن ويزهر بالحب، فهو الكفيل بأن ينتشل البشرية من مستنقع العنف والتشيؤ.

قائمة المصادر والمراجع:

قائمة المصادر:

باللسان الفرنسي:

-Emmanuel Levinas, Le dieu, La mort et Le temps, Edition & Fasquelle, Paris, 1993.

-Emmanuel Levinas, Totalité et infini( Essai sur l’extériorité), Kluwer acadimic, 1996.

-Jean-Luc Marion, Figures de la phénoménologie, Edition libraire philosophie, Paris,2012.

-Jean- luc Marion, Lego ne reste supportable que s il se sait aimé, le point, numéro 17, Avril- Mai 2008.

باللسان العربي:

-جان لوك ماريون، ظاهرة الحب(سته تأملات)، ترجمة يوسف تيبس، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2015.

قائمة المراجع:

باللسان الفرنسي:

-Gérard Bailhache, Le sujet chez Emmanuel Levinas (Fragilité et subjectivité), press Université de France,1994.

– Luck Ferry, Vaincre Les peurs, La philosophie comme Amour de la sagesse, Odile jacob, paris,2006.

– Michel Foucault, les mots et les choses, Gallimard, Paris.

-Walter Benjamin, Œuvres, Traduit , Maurice de Gandillac, Pierre Rusch, Rainer Rochiltz, folio essais, A D A G P, Catégoire, 2000.      Edition :01.

باللسان العربي:

-أدغار موران، النهج(انسانية البشرية، الهوية البشرية)، ترجمة هناء صبحي، هيئة ابوظبي للثقافة والتراث، ابوظبي، الامارات العربية المتحدة، ط1، 2009.

-ادغار موران، هل نسير الى الهاوية؟،ترجمة عبد الرحيم حزل، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2012.

– جوديث بتلر واخرون، قوة الدين في المجال العام، ترجمة فلاح رحيم، دار التنوير للطباعة و النشر،  ط1، 2013.

-زهير الخويلدي، معان فلسفية، دار الفرقد، دمشق، ط1، 2009.

-زيجمونت باومان، الحداثة والهولوكوست، ترجمة حجاج ابو جبر ودينا رمضان، مدارات للأبحاث والننشر، القاهرة، 2014.

-لوك فيري بالتعاون مع كلود كيلياي، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ترجمة محمود بن جماعة، دار التنوير للطباعة والنشر، ط1.

-ماكس هوركهايمر-ثيودورف_ادورنو، جدل التنوير، ترجمة جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2006 .

-محمد عزيز الحبابي، من الحريات الى التحرر، دار المعارف بمصر، 1972.

قائمة الموسوعات:

باللسان الفرنسي:

– Grand Dictionnaire de la philosophie, Larouse, Cnrs Edition, 2005 .

[1] -جان لوك ماريون، ظاهرة الحب(سته تأملات)، ترجمة يوسف تيبس، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2015، ص57.

[2] -مصدر نفسه، ص59.

[3] -مصدر نفسه، ص60.

[4] -Jean- luc Marion, L’ego ne reste supportable que s’ il se sait aimé, le point, numéro 17, Avril- Mai 2008, p.113.

[5] _لوك فيري بالتعاون مع كلود كبلياي، اجمل قصة في تاريخ الفلسفة، مرجع سابق ، ص ص63-64.

[6] -محمد عزيز الحبابي، من الحريات الى التحرر، دار المعارف بمصر، 1972، ص123.

Jen-Luc Marion, Figures de la phénoménologie, Edition libraire philosophie, Paris,2012,p80                              _28

[8] -جان لوك ماريون، ظاهرة الحب(ستة تأملات)، مصدر سابق، ص ص65-66.

التعليقات مغلقة.