رحمة خطار
في يوم من أيام شهر ديسمبر الباردة على الساعة العاشرة ليلا، كانت يوكيو عائدة
من المطعم الذي تعمل فيه بدوام جزئي من أجل دفع مستحقات الجامعة التي
رغبت في الالتحاق بها السنة المقبلة .ساد الضباب أرجاء المكان ،نسمات جليدية
تسربت إلى جسدها النحيل جعلتها تضم كفيها إلى فمها لتنفخ فيهما بعض الدفء.
وقفت في المحطة تنتظر قدوم الباص الذي ينقلها إلى مدينتها الصغيرة يوميا ،خ يم
صمت رهيب على المكان م زق ستائره وقع أقدام كانت تقترب من خلفها ببطء، ث م
توقفت فجأة .استدارت يوكيو متوجسة لتجد امرأة فارعة الطول ترتدي معطفا
طويلا بلون وردي فاتح و تضع على أنفها كمامة ناصعة البياض ، أما شعرها
الحريري فقد استرسل على كتفيها كخيوط الذرة .
اخترقت المرأة عيني الفتاة بنظرة حادة من عينيها الجميلتين ثم سألتها قائلة
بخجل :
هل أنا جميلة ؟
استغربت يوكيو من طبيعة السؤال ،صمتت قليلا ثم أجابتها بنعم .
امتدت يد المرأة الغريبة إلى مؤخرة رقبتها و نزعت الكمامة ثم رمتها أرضا ، و كررت
السؤال لكن بلهجة أشد هذه المرة :
هل أنا جميلة ؟
و ن دت عن الفتاة صرخة إثر رؤيتها لهذا المنظر الذي أمامها ، لقد كان فم المرأة
مشقوقا من الأذن إلى الأذن و أسنانها تصطبغ بالدم بصورة مر وعة .
ر ددت الفتاة بشكل لا إرادي : لا …..لا …
هنا جحظت عينا المرأة و زمجرت غاضبة ، ثم سحبت من جيبها زوجا من المقصات
الحا دة التي استقرت في رقبة الفتاة ثم تشق جسدها لتسقط قتيلة بعد لحظات.
بعد نصف ساعة من الحادثة ،عثر على يوكيو و هي مضرجة بدمائها التي انبعثت
كشلال أحمر انبثق من مختلف أنحاء جسدها ، نقلت الجثة إلى مصلحة حفظ
الجثث ،و تم تشميع المكان للتحقيق في ملابسات الجريمة .
في اليوم الموالي ،جلس المحقق يوشيتو برفقة زميلته يونا في مكتب التحقيق
ليعالجا القضية و الحيرة تنهش عقولهم ، خاطبها و هو يعرض أمامها صور
ال ضحية قائلا :
أمر محير ،لا يوجد أدنى دليل عن مرتكب الجريمة ، لا ش ك في أنه ذكي جدا .
ر دت بنبرة استغراب و هي ترفع حاجبيها:
إنها مجرد طالبة في الثانوية ،فتاة غير اجتماعية و لا تملك سوى صديقة واحدة ،
جميع من سألناهم م من يعرفونها أخبرونا أنه لم يكن لها خصومات من قبل .
قال يوشيتو بنبرة أسى :
في أيامنا هذه ،لا يشترط أن يكون لك خصوم لتموت ميتة بشعة ،العام أصبح
قاسيا بشدة .
هزت يونا رأسها موافقة على كلامه و قالت :
أترك الصور بحوزتي اليوم .
أخذت يونا الصور و خرجت من مكتب التحقيق لتتجه مباشرة إلى الكافيتيريا من
أجل أن ترتاح و تفكر بروية ،سحبت الصور و وضعتها أمامها على الطاولة ثم
تمتمت قائلة :
إن الطريقة التي قتلت بها غريبة ،إنها مقطوعة لنصفين كما لو
أن فمها قد شق
من الجانبين الظاهر أنه تم تقطيعها بمقص و هذا غير ممكن .
في اليوم الموالي ،قررت المحققة يونا أن تلجأ للاطلاع على قضايا سابقة مشابهة
لهذه القضية .حينما يستعص ى على المحقق حل قضية شائكة سيجد نفسه ملزما
بأن يعود للملفات السابقة ليقارن بينها و بين القضية الراهنة.
سحبت معظم السجلات القديمة ، وبينما كانت تقلب بين الأوراق التي صنفت
حسب السنوات لفتت انتباهها بعض الصور من ملفات السبعينيات ، و هنا كانت
الصدمة .نفس طريقة التنكيل التي تعرضت لها جثة الفتاة، و نفس الشق في
أفواههم .
قلبت الأوراق باضطراب ، صور لضحايا من مختلف الأعمار ،أطفال و شباب و
نساء ، كما لاحظت
أن النساء هن المستهدفات بكثرة في هذه الطريقة الشنيعة، وأن الشق الذي أحدث في أفواههم كان أوسع على عكس الذكور .
و لمع في ذهنها تفصيل آخر مرعب :مواقيت الجريمة معظمها بعد العاشرة ليلا ، و
في الموسم نفسه من السنة ، كما أنه قد عثر على الضحايا في الحدائق أو المحطات
التي تقصدها الأقلية فقط من المجتمع الياباني .
بحثت عن ملاحظات بخصوص هذه الجرائم يمكن الاسترشاد بها في حل القضية ،
لكن معظم الخانات ركتت فارغة ما عدا شخص واحد كتب ملاحظة من بضعة
أسطر أرجع فيها القضية لأمر متعلق بما وراء الطبيعة ، إنه المحقق يوسوكي الذي
تقاعد منذ قرابة عشرين عاما .
أخذت يونا عنوان المحقق السابق و ق ررت أن تزوره في مساء ذلك اليوم ، لا شك
في ها
أن مستعجلة من أجل ح ل هذه القضية التي تعبث بأعصابها لغموض
تفاصيلها و أي غموض ؟حين يغيب ال دليل ، يعجز المحقق عن التأويل .
وصلت يونا إلى منزل يوسوكي و طرقت باب منزله ،فتحت زوجته الباب فسألتها
يونا قائلة و هي تشهر بوجهها بطاقة عملها :
أدعى يونا ، و أنا محققة. أرغب في مقابلة السيد يوسوكي .
استدارت زوجة لتناديه من الغرفة المجاورة :
لديك ضيوف.
بعد أن أطلعت يونا السيد يوسوكي على تفاصيل الجريمة التي تولت مهمة
التحقيق فيها و مدى تشابهها مع قضاياه السابقة ،مال برأسه للوراء ، وشرد بعيدا
و كأنه يسترجع في ذهنه ذكريات من أيام خلت ، ثم قال بعد برهة :
كنت شابا يافعا في بداية مزاولتي لمهنتي كمحقق حين حدث هذا النوع من الجرائم، القضايا التي ذكرتها بالإضافة إلى الجريمة التي تحققين في أمرها متشابهة إلى حد
كبير في الطريقة و التفاصيل و زمن ارتكابها ، و تكررت على مدار سنوات إلا أن
التحقيق بخصوصها يغلق سريعا ، وذلك لعدم وجود أدلة أصلا ، لكن هناك أمر
لم يصدقه الجميع.
هزت رأسها موافقة :
و لهذا جئتك اليوم ،لقد قرأت ملاحظاتك تلك ، هل يمكنك أن توضح لي أكثر ؟
أجابها بنبرة خافتة :
لقد تو صلت إلى فرضية كنت أشك في حدوثها بنسبة كبيرة ،و هي أن مرتكب
الجريمة ليس من البشر الأحياء أصلا .
قطبت جبينها و ضيقت عينيها قائلة :
أخبرني كيف توصلت إلى ذلك ؟لع ل الأمر صحيح ، من يدري ؟
أخذ نفسا عميقا ثم زفر قائلا :قبل أن أخبرك استنتاجي الذي توصلت عليه،سأسرد لك أسطورة طالعتها في كتب الأدب الشعبي منذ ثلاثين عاما : كانت هناك
امرأة شابة عاشت في حقبة حكم سلالة هان ،يقال أنها كانت زوجة أو محظية
أحد مقاتلي الساموراي ،و يحكى أنها كانت جميلة جدا لكنها مغرورة ، ومن
المحتمل أنها كانت تخون زوجها الذي شعر بالإهانة بسبب ما يتداول عنها ،و في
أحد الأيام هاجم زوجته و ش ق فمها بسيفه من الأذن إلى الأذن و كان يصرخ فيها
:”من سيظن أنك جميلة الآن ؟“
بعد أن استمعت يونا للقصة التي حكاها لها حاولت أن تربط بينها و بين تلك
الجرائم و هي تمتم قائلة :ش ق الفم ..هل تظن أنها هي ؟
أومأ برأسه بنعم ثم أردف قائلا :
إذا لاحظت فالفارق بين سلسلة تلك الجرائم عشر سنوات ، لقد عادت من تلك
الحقبة لتقطف أرواح الضحايا بنفس الطريقة البشعة التي قتلت بها لسبب لا
نعلمه ، والآن ما رأيك ؟ هل تصدقينني أم
أنك تكذبينني مثلما فعلوا ؟.
هزت رأسها نفيا :
أنا لا أكذبك ، لأني كدت أجن بسبب غياب الأدلة ، و أرى
أن ما قلته احتمال وارد
بشدة ،إذن ما الذي يمكننا فعله ؟ كيف سنوقفها؟.
أجابها بأسى :
في الوقت الراهن لا ش يء ، بما أنها قوة خارقة للطبيعة .
قالت يونا بنبرة ثقة :
لكل معضلة حل، لكن إلى ذلك الحين نرجو أن لا يكون هناك مزيد من الضحايا.
شكرت يونا المحقق يوسوكي ، ودعته ثم خرجت ، كانت الشمس قد شارفت على
المغيب .اشترت وجبة جاهزة للعشاء ثم اتجهت إلى منزلها .
بعد أن تناولت عشاءها جلست أمام الحاسوب و شرعت في البحث عن معلومات
تفصيلية تخص أسطورة ذات الفم الممزق .
و أخيرا حصلت على ما كانت تبحث عنه ،لقد قرأت بأنه في وقت ما كانت هناك
امرأة ترتدي قناع و تطارد الأطفال بكثرة حسب ما روي عنهم، كان هناك فيديو
بخصوص هذا الموضوع ، فتحت الرابط و شغلت الفيديو الذي يظهر طفلا يبدو
أنه في حوالي السابعة من العمر كان يتحدث قائلا بأن امرأة أتت إليه و سألته إن
كانت جميلة لكنه لم يجبها ، و نزعت قناعها فبدا له أن فمها مشروخ ثم سألته
مجددا إلا أنه لم يجبها و شرع في البكاء ، فتركته و مضت .
ازداد يقين يونا من كون هذه القصة حقيقية في الأصل ،كان تاريخ الفيديو يعود، لسنة 2000
أخذت عنوان المدرسة الابتدائية و اسم الفتى ، و قررت أن تبحث عنه . لقد أصبح
شابا إذا كان لا يزال على قيد الحياة .
اتجهت إلى المدرسة التي ارتادها ذلك الفتى حيث قابلت المديرة و طلبت منها أن
تسمح لها بالاطلاع على سجلات الطلبة القدامى التي تعود لتلك السنة ،سألتها
المديرة بلهجة استنكار :
ما دخل ماضي الطفل بالجريمة المرتكبة ، أم أنه مشتبه به ؟
هزت يونا رأسها نافية :الأمر الأكثر تعقيدا من هذا ، من فضلك أريد عنوان بيتهم
فحسب .
أخذت العنوان و مضت إلى الشارع الذي يقع به منزل الفتى ،لكنها لم تعثر على أثر
لعائلتهم .سألت بعض السكان في الجوار فأخبروها بأنهم قد سافروا منذ أزيد من
عشر سنوات ،و لا أحد يعلم وجهتهم آنذاك .
أصيبت يونا بالإحباط ، في طريقها إلى المنزل كانت تفكر في أن تغلق القضية كما
هو الأمر بالنسبة لسابقاتها .فلا أحد سيصدق أسطورة” كوشيساكي أونا“.
كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهرا ،اشترت كوب كابتشينو و جلست لتحتسيه
في احدى الحدائق المعزولة .
فجأة شعرت بملمس أنامل باردة وضعت على رقبتها ،انتفضت يونا من مكانها
فزعة و نظرت بعينين فزعتين إلى المرأة الواقفة أمامها، ترتدي معطفا طويلا ،
شعرها الأسود منسدل على كتفيها ، كما ها
أن تضع كمامة على فمها .إنها
كوشيساكي أونا .
مشت خطوتين باتجاهها و جلست إلى جانبها و خاطبتها بصوت حا د :
كنت تبحثين ي
عن أليس كذلك ، ها أنا ذا
ازدردت يونا ريقها و أجابتها : نعم.
حدقت كوشيسياكي أونا في عيني يونا و سألتها :
هل أنا جميلة ؟
استجمعت يونا أنفاسها محاولة التماسك و قالت :
نعم ، أنت جميلة .
أطلقت كوشيسياكي أونا ضحكة قصيرة و امتدت يدها لتنزع القناع الذي كشف
عن فم مم زق من الأذن إلى الأذن ، دامي الأطراف .يبدو كجرح قديم لكنه مازال
ينزف .
ك ررت سؤالها مجددا :
هل أنا جميلة ؟
أجابتها يونا بثقة مفاجئة :
نعم ،أنت جميلة فعلا. يجب أن تؤمني بهذا و لست في حاجة لأن يخبرك أحد بهذا
صدقيني .عشت جميلة
ومت جميلة، و لكن ما تقومين به الآن لا يجعلك كذلك
فأنت تنتقمين من أناس أبرياء و هذا يشوه روحك .عليك أن توقني أن جمال
روحك أه م من وجهك.
يجب أن تعودي من حيث جئت لترقدي في سلام .
نظرت لها كوشيسياكي أونا بعينين متسعتين انحدرت منهما دموع سوداء ،ر ددت
بنبرة خافتة :
أنا لم أخنه ..
أخذت الكمامة و وضعتها على فمها مجددا ثم أخرجت من جيب معطفها ياقوتة
حمراء اللون و ق دمتها ليونا ثم اختفت فجأة .
نظرت يونا من حولها غير مصدقة بأنها كانت منذ لحظات مع تلك المخلوقة المرعبة
التي ارتكبت كل تلك الجرائم .
قلبت بين يديها تلك الياقوتة التي أهدتها لها . لا شك
في أنها علامة قبول .لقد تملكتها الدهشة جراء الموقف الذي عايشته ، و كيف أنها
وقفت بثقة و قوة لمواجهة تلك المرأة .
التعليقات مغلقة.