أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية

أ. أنيس أحمد الفلاحي المدني

أخلاقيات الحرب في السيرة هي عبارة عن ابتعاد من الغدر ووفاء بالعهود وإقرار للسلام ومعاملة إنسانية لغير المحاربين وتمسك بالمثل العليا الرفيعة في معاملة المغلوبين.

وقد شرع الجهاد للقضاء على الظلم والعدوان وإنقاذ المستضعفين من براثن الجبابرة وللدفاع عن حرية الدين والمعتقد وحفظ الأديان وأماكن عبادتها وتحرير الإنسان من الاستعباد والاضطهاد.

الإسلام هو أول دين جاء بنظام الأخلاق في الحرب تكريمًا للإنسان ورفعًا لقدره وشأنه، وقد فرضه النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة وطبّقه في الغزوات، ولاتعرف ماقام به النبي صلى الله عليه وسلم في الحروب من الإصلاحات العظيمة التي جعلتها حربًا عادلةً حق المعرفة حتى تعرف ماكان عليه الناس في الحروب قبل الإسلام وبعده.

كان قضاة بني اسرائيل وملوكهم ينهبون المدن بعد الانتصارات عليها ويحرقونها بالنار ويقتلون المغلوبين بقسوة لاهوادة فيها لهم، وكانوا لايفرقون بين المحاربين وغير المحاربين.

وأما العرب فقد كانت أهدافهم في الحروب دنيئة، وهي أخذ الثأر وطمع الغنيمة ورغبة في التفاخر فيما بينهم، وكانوا يمارسون مناهج موحشة في الحروب من الاعتداء على حين غفلة من الناس واستهداف الصبيان أغراضًا للرماح والنبال لأجل التفرج والتمتع، وتمثيل وتشويه للقتلى والجرحى، ونقض العهود والمواثيق، والغدروالفتك.

والدول المتحضرة في ذلك الزمان كالروم والفرس لم تكن تختلف عملياتهم في الحروب عن عمليات المتخلفين منهم، فكانوا لايفرقون بين المحاربين وغيرالمحاربين ويقتلون كل من وجدوهم بعد الانتصار، حتى الرهبان والنساء والشيوخ والصبيان، وكانوا يمارسون من أشنع وقائع الظلم وأقبح جرائم التقتيل والتدمير،وكانت المعابد تهدم، والرسل تحبس وتقتل، والعهود والمواثيق تنقض، والنساء تهان.

أما أمريكا والدول الأوربية المتحضرة الراقية فقد شنوا الغارات على الدنيا عمومًاوعلى بلاد الإسلام خصوصًا للاستيلاء على ثروات العالم والعلو على الناس، وقد استخدموا في هذه الحروب كل أنواع الأسلحة المحرمة دوليًا،من اليورانيوم المنضب إلى الفسفور الأبيض،إلي القنابل العنقودية،إلى ما لايعلمه إلا الله.

ولو ألقيت نظرة عابرة على وقائع هذه الحروب التي سجلها كتابهم تجد أن قتل الصبيان والضعفاء والمرضى والجرحى والنساء وتحريق الحدائق المخصبة وإهلاك الحرث والمزارع وإبادة الأنعام والبهائم وإحراق المعامل ومراكز العلوم وخزانات المعارف وآثار الفنون ومعاهد التربية الإنسانية وتدمير البنايات وإفساد وتخريب البضائع والأمتعة لم يحدث كل ذلك إلا حرصًا على السيادة أو طمعًا في امتداد السلطة.

الأصول الأخلاقية التي كان يرعاها النبي صلى الله عليه وسلم قبل القتال هي مشاورته  صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل بدء القتال لتبيين الحق ومعرفة الآراء الناضجة ورغبة الجيش في القتال ووجوب الدعوة قبل القتال، والمراد بإبلاغ الدعوة تخيير العدو بين الإسلام أو العهد أو القتال، والوفاء بالعهود والمواثيق والابتعاد من انتهاز غفلة العدو المعاهد وأخذه على غرة غدرًا، والسيرة مملوءة بنماذج رائعة بالعهود والمواثيق فقد وفى صلى الله عليه وسلم بالعهد في أحرج ساعة من حياة الأمة المحمدية، أعني يوم بدر، فقد رد حذيفة وأباه للعهد الذي أخذها المشركون منهما بعدم القتال معه صلى الله عليه وسلم، وقال: «نفي بالعهد ونستعين بالله عليهم»، والكف وقت الإغارة عمن عنده شعائر الإسلام، والابتعاد عن الإغارة ليلًا، لأنه يصعب في الليل معرفة المحاربين من غير المحاربين.

كان نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يزود جيشه بوصايا تتضمن آداب القتال في الإسلام كلما أرسله إلى جهة، وقد طبق الصحابة بهذه الوصايا في الغزوات والسرايا، وهي إخلاص النية وتحريم القتال لأجل المغنم والشجاعة والرياء والحمية والغضب والابتعاد عن الغلول والغدر ونكث العهد والاعتداء على المعاهدين وعدم التمثيل بالقتيل والإحسان في القتل، والابتعاد عن الإفساد في الأرض ووقف الحرب إذاجنح الأعداء للسلم وظهرت منهم بوادر الصدق والوفاء، وفعلًا قدكف النبي صلى الله عليه وسلم عن التمثيل ووقف الحرب حينما جنح أهل خيبر إلى الصلح وأيقنوا بالهلكة، فلو كان همه صلى الله عليه وسلم السيطرة على البلاد والثروات لما وقف الحرب وكان في آخر لحظة من الانتصار.

وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم للحرب قواعد شريفة ألزم التقيد بها على جنوده ولم يسمح لهم الخروج عنها بحال، فقد نهى عن التحريق بالنار والقتل صبرًا، وأمر بالإحسان في القتل ونهى عن قتل أناس حضروا المعركة كرهًا وكانت لهم مواقف مشكورة مع الإسلام وأهله، ونهى عن قتل الذين لم يباشروا القتال كالنساء والصبيان والشيوخ والعميان والرهبان والعمال والأجراء والتجار ومن كان مقعدًا أو نحوه ممن كان لايرجي نفعه ولاضره على الدوام،ونهى عن قتل الأسير والرسل ومن أظهر كلمة الإسلام -ولو في ساحة القتال- والمستأمن والجريح والفار من المعركة.

وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم في القتلى والجرحى والأسرى القيم المثلي الرفيعة، فقد أمر بمواراة جثث المشركين بعد غزوة بدر، فكانت سنته صلى الله عليه وسلم أنه لايمر بجيفة إنسان فيجاوزها حتى يأمر بدفنها، لايسأل أمسلم هو أم كافر؟ وأمر الرفق بجرحى الأعداء، ومنع من الإجهاز عليهم، وأوصى أصحابه بإكرام الأسرى وإسداء كل خير لهم، فقال: استوصوا بالأسارى خيرًا، وقدطبق الصحابة هذه الوصية حتى أنهم كانوا يقدمون أسرى بدر في المأكل والمشرب على أنفسهم، فأنزل الله في شأنهم ومدحهم قرآن يتلى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا  [الإنسان: ٨]

وكان يكسو الأسرى، فقد كسا عمه العباس يوم بدر، ولما أطلق سراح بني هوازن وكانوا ستة آلاف أكرمهم وكسا كل صبي منهم قبطية.

وكان سنته صلى الله عليه وسلم في الأسرى المن عليهم بغير فدية، فلم يأخذمن

الأسرى فدية إلا في غزوة بدر معاملة بالمثل، وبهذا يظهر أن الإسلام بمنأي عما كان سائدًا في القرون الوسطى من إعدام الأسرى وذبحهم.

وكان من سنته صلى الله عليه وسلم تدفين الشهداء في رعايته، وكان يكرم الشهداء فيدنيهم إلى بدنه الشريف إظهارًا للمودة والشفقة، ويعطي لورثة الشهداء نصيبهم من الغنائم، ويتفقد أحوال يتامى الشهداء ويواسيهم، ويمدح ويثني على الصحابة الذين بذلوا أنفسهم لإعلاء كلمة الله، ويزور قبورهم ويدعو لهم، وكان يسعى في فك أسرى المسلمين.

وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بسيرته بعد الانتصارات في غزوة بدر وخيبر ومكة وحنين بأن الحروب إذا انتهت باستسلام العدو فلا عدوان على الأعراض ولاتخريب للمدن ولااستلاب للأموال ولا إذلال للكرامات ولا اندفاع وراء الثأر والانتقام، بل أكثر من ذلك فقد أنزل النبي صلى الله عليه وسلم الناس منازلهم وعفا عن جميع أعداءه الذين آذوه وسبوه وأخرجوه من بلده وحزبوا الأحزاب ضده وقاتلوه في بدر وأحد والأحزاب، حتى اعترف بذلك بعض كُتَّاب الغرب، يقول غوستاف لوبون: «عامل محمد بلطف وحلم قريشًا الذين ظلوا أعداءً أشداء لعشرين سنة، وأنقذهم من سورة أصحابه»، ورد صحائف متعددة من التوراة التي حصل عليها المسلمون في خيبر إلى اليهود.

وكان صلى الله عليه وسلم يعامل مع أفراد جيشه ويقدر ظروفهم ويراعي شعورهم ويلاطف معهم ويقبل مشورتهم وينوه بأعمالهم ويطلق عليهم الألقاب تقديرًا لعملهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يعمل مع الأعداء معاملة حسنة طيبة، فقد كان يواسيهم في المصائب والكوارث، فقد أهدى إلى سفيان تمر عجوة، وبعث بخمس مائة دينار إلى أهل مكة حين قحطوا للتوزيع على فقرائهم ومساكينهم، وعفا عن الأعداء الذين ظفروا بهم وقد هموا بقتله صلى الله عليه وسلم، ويعترف بجميل الأعداء وإحسانهم ويشكرلهم، فقد منع أصحابه من الغزو على الحبشة حفظًا للجميل الذي قام به النجاشي من حماية المهاجرين، فقال صلى الله عليه وسلم: «دعوا الحبشة مادعوكم».

قد اختصت الغزوات بمزايا فريدة ميّزتها عن أنواع الحرب الأخرى:

ومن أهمها خلوّها عن النهبة ومصادرة الأموال واستلابها، فقد تجنب بعض الصحابة عن أخذ الغنائم حرصًا منهم على الجنة وطمعًا منهم في رضوان الله، وقد قاموا بروائع الإيمان في الغزوات وبذلوا أموالهم وأنفسهم لإعلاء كلمة الله، حتى نزل فيهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: ٢٣]

والميزة الثانية للغزوات خلوّها عن العدوان والاعتداء على الأعراض وهتك الحرمات واختطاف الفتيات من أحضان أمهاتهن.

والميزة الثالثة خلوّها من سفك الدماء وقتل الأبرياء.

وقد بسطت هذه الغزوات الأمن في أرجاء الجزيرة العربية، وأحلت بين الفاتحين والمغلوبين الأخوة الروحانية.

وكتب السيرة والفقه والمغازي تنطق بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ أحدًامن الكفار بقتال، فجميع الغزوات التي وقعت في عهده صلى الله عليه وسلم كانت أسبابها راجعة إلى دفع العدوان والاعتداء على المسلمين أو شن حرب وقائية بعد نقض العهود من المشركين.

ولم تكن الغزوات لأغراض وأطماع شخصية وحب السيطرة والأمجاد كما هو الحال في حروب العالم، فلم يكن هدفه صلى الله عليه وسلم حب السيطرة على البلاد والمدن في الغزوات من بعيد أو قريب، وأكبر شاهد على ذلك أنه لم يول هاشميًا بعد الفتح على البلاد، فحينما تطاول عليلأخذ مفتاح الكعبة وقال يا رسول اﷲ! اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى اﷲ عليك، فقال رسول اﷲصلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعى له، فقال له: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برّ ووفاء.

وفارق رسول اﷲ صلى الله عليه وسلم الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب ويرهبه ملوك الدنيا ويفديه أصحابه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم، وما ترك عند موته دينارًا ولا درهمًا ولا أمة، ولم يترك إلا البغلة البيضاء والحربة والكسوة والسلاح والسرير، وجعلها وقفًا وصدقةً للمسلمين.

ذلك ما أبقاه الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأهله من متاع الدنيا، ولو كانت له رغبة في المادة لأبقى لنفسه مال زوجته خديجة وهو مال كثير.

وآخر دعوانا أن الحمد ﷲ رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

التعليقات مغلقة.