فلسفة التعليم في الإسلام وأسسها المنهجية (2)

أ. ذكي الرحمن غازي

فلسفة التعليم الإسلامي

يمكن تعريف فلسفة التعليم بأنها: النشاط الفكري المنظم الذي يتخذ الفلسفة وسيلة لتنظيم العملية التعليمية و تنسيقها و انسجامها و توضيح القيم و الأهداف التي ترنو إلي تحقيقها. [ مقدمة في فلسفة التعليم و التربية: محمد لبيب النجيحي، ص ۳۱ ] و هناك تعريف آخر لفلسفة التعليم بأنها تطبيق النظرة الفلسفية و الطريقة الفسفية في ميدان الخبرة الإنسانية التي نسميها التعليم. [ الفلسفة و التربية، محاولة لتحديد ميدان فلسفة التربية: صادق سمعان، ص ۱۶،۱۷ ]

ففلسفة التعليم يقصد بها صورة الإنسان الذي تتطلع منهجية التعليم الإسلامية إخراجه في ضوء علاقاته بالخالق و الكون الإنسان و الحياة و ما بعد الحياة، و بكلمات أخري يقصد بفلسفة التعليم الإسلامية مواصفات الإنسان الذي يستهدف التعليم الإسلامي إعداده وإخراجه و يبلغ به الإنسان درجة الكمال حين تتشكل علاقاته بالخالق و الكون و الحياة و الآخرة و الإنسان طبقاً للصورة التي حددتها فلسفة الإسلام الكلية عن الخالق و الإنسان و الكون و الحياة و ما بعد الحياة. [ المنهجية الإسلامية و العلوم السلوكية التربوية: انور ماجد عشقي، ص ۸۸۵ ]

تأثرت الفلسفة الإسلامية للتعليم بالفلسفات الأخري و لكن ذلك لا يعني أنها طبعت بطابع تلك الفلسفات، بل قامت الفلسفة الإسلامية معتمدة علي القرآن الكريم و السنة علي أن الغاية القصوي من الفلسفة الإسلامية هي الحكمة، و ما الحكمة إلا معرفة اللّٰه تعالي، لهذه كان الغاية من الفلسفة الكلية هي معرفة اللّٰه تعالي. و رغم أن الدين الإسلامي نزل علي الرسول الكريم ﷺ في أرض الحجاز من الجزيرة العربية إلا أنه قد جاء للناس عامة، فجاء القرآن الكريم ليتمم هداية الناس إلي الطريق المستقيم، و لم يكن الدين الإسلامي شريعة فقط، بل كان فلسفة كاملة و طريقة حياة شاملة تدعو العقول إلي التفكير و الأيدي إلي العمل، كما اهتم الدين الإسلامي بالعلم و التعليم، و ليس أروع من أن يبدأ هذا تعاليمه بأول آياته التي نزلت إلي البشرية بقوله تعالي: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ ٭ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ٭ اقْرَأْ وَرَبُّك الْأَكرَمُ ٭ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ٭ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يعْلَمْ  } [ العلق: ۱-۵ ] إنه دين التعليم و العلم، دين الثقافة و المعرفة، دين الحكمة و محبتها، إنه دين أنشأ الرباط المقدس الدائم بين الدين و العلم و ربط مسير أحدهما بالآخر و فخم شأن العلم و حث عليه حثاً لا مزيد عليه، فكانت نتيجته الطبيعية وجود حركة علمية تأليفية لا يوجد مثيلها في تاريخ الأدوار و المدنيات التي قامت علي أساس الدين و الرسالات السماوية. [ العولمة و التربية: صالح بن مبارك الدباسي، ص ۶۴ ]

و أكبر دليل علي ذلك أن أول وحي نزل علي الرسول الكريم ﷺ منّ فيه فاطر الكون علي النوع البشري بتخصيصه بالعلم و ذكر فيه وسيلته الكبري التي ارتبط بها تاريخ العلم و مسيرته، و انبثقت منها حركة التأليف و التعليم و نقل العلم من فرد إلي فرد و من أمة إلي أمة و من عصر إلي عصر و من جيل إلي جيل، و يرجع إليه فضل ذيوعه في العالم و انتشاره علي أوسع نطاق، و قام عليه دنيا المدارس و الجامعات و دور العلم و المكتبات. لقد كانت كل القرائن التاريخية و العقلية تستبعد أن يذكر في سياق هذا الوحي الأول ’’ القلم ‘‘ و لا يفتتح الأمر بالعبادة أو بمعرفة اللّٰه تعالي أو طاعته أو الدعوة إلي اللّٰه أو نبذ الأوثان أو نعي علي الجاهية، إن في هذه الآيات إشارة بليغة واضحة إلي أن هذا النبي الأمي سيفتتح دوراً جديداً  في تاريخ الإنسانية و الديانات و الرسالات السماوية يتسم بالقراء ة في أوسع معانيها و أعمقها و بقيام دولة العلم و باقتران الدين بالعلم، و لكن سيكون انطلاق فن القراء ة و العلم في أحضان هذه النبوة باسم الرب الذي خلق هذا الكون و الإنسان، فيكون مصطبغاً بالإيمان باللّٰه و معرفته الصحيحة، عارفاً بحقيقة الإنسان و خِلقته فلا يعدو طوره و لا يغتر بفتوحه في مجال العلم و العقل والصناعة و أسباب تسخير الكون. ثم أشير في هذه الآيات إلي شرف القلم و غناء ه في عالم التعليم و التربية، و إلي صلاحية الإنسان للعلم الحديث الأحدث من الحقائق الدينية و الكونية و العلوم و الصنائع و أن مصدر ذلك كل هو التعليم الالهي و تهيئة الإنسان لعلم المجهول و اكتشاف المفقود، فهذه بداية الإسلام بينما هناك ديانات تري حياتها في موت العلم و انتصارها و ازدهارها في انهزام العلم مثل الديانة البرهمية في الهند و الكنيسة النصرانية في أوربا في القرون المظلمة. فدور الإسلام في توجيه العلم إلي الهدف الصحيح و حمله علي أداء دوره الإيجابي البنّاء أكبر أهمية و أكثر قيمة من دوره في تنشيط حركة العلم و توسيعها. [ الإسلام أثره في الحضارة و فضله علي الإنسانية: أبو الحسن علي الحسني الندوي، ملخصاً ۷۹-۹۱ ]

إن البشرية علي مدار تاريخها لم تعرف نظاماً شاملاً واسعاً محيطاً بكل الأمور كالإسلام، فمن الطبيعي أن تنبع الفلسفة الإسلامية من القرآن الكريم و الحديث الشريف، و في الواقع قامت الفلسفة الإسلامية علي أساسهما، و كانت الغاية القصوي من الفلسفة الإسلامية هي الحكمة – كما مر – و الحكمة تعني معرفة اللّٰه تعالي، و لكن الفلسفة الإسلامية لا تقف عند ذلك، بل تتعداه إلي الملاحظة و التجريب و ما هو واقعي ملموس في هذا الكون الواسع الفسيح، و الغرض من ذلك الوصول إلي الحقيقة و المعرفة لقوله تعالي:  { أَفَلَا ينظُرُونَ إِلَي الْإِبِلِ كيفَ خُلِقَتْ ٭ وَإِلَي السَّمَاء  كيفَ رُفِعَتْ ٭ وَإِلَي الْجِبَالِ كيفَ نُصِبَتْ ٭  وَإِلَي الْأَرْضِ كيفَ سُطِحَتْ  } [ الغاشية: ۱۷-۲۰ ] و قوله جل و علا: { سَنُرِيهمْ آياتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهمْ حَتَّي يتَبَينَ لَهمْ أَنَّه الْحَقُّ  } [ فصلت: ۵۳ ] فالعلم من منظور الفلسفة الإسلامية أشرف الصناعات و أفضلها، و لأنه الخاصية التي يتميز بها الإنسان عن الحيوان. إنما الأشياء النفسية تنقسم إلي ما يطلب لغيره و إلي ما يطلب لذاته و إلي ما يطلب لغيره و لذاته معاً، و ما يطلب لذاته أشرف و أفضل مما يطلب لغيره، و معني ذلك أن العلم إذا كان أفضل الأمور كان تعلمه طلباً للأفضل، و كان تعليمه إفادة للأفضل، و ما آتي اللّٰه عالماً علماً إلا أخذ عليه ميثاقاً أن يعلمه و لا يكتمه علي الناس، و إذا كان العلم أفضل الصنائع و أشرفها كان معلم العلم أعلي مرتبة من سائر المشتغلين بالصناعات الأخري كالزراعة و الصناعة و غيرها، فهي كالشمس تضيئ لغيرها و هي مضيئة في نفسها و كالمسك يطيب غيره و هو طيب، ومن ناحية أخري أن أشرف موجود علي الأرض جنس الإنس و أشرف جزء من جوهر الإنسان قلبه، و المعلم مشتغل بتكميله و تجليته و تطهيره و سياقته إلي القرب من اللّٰه عز و جل، فإن اللّٰه تعالي قد فتح علي قلب العالم العلم الذي هو من أخص صفاته، فهو كالخازن لأنفس خزائنه ثم هو مأذون له في الإنفاق منه علي كل محتاج إليه. إن للتعليم هدف ديني في الإسلام و هو خدمة اللّٰه وابتغاء وجهه و كل غرض آخر سواه مضيعة للوقت و تقليل من فائدة العلم، و العلم في الإسلام لا ينفع صاحبه في الدنيا و لا في الآخرة إلا إذا عمل به، فقد قال الرسول ﷺ: ’’ إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه اللّٰه بعلمه ‘‘ و من كان من الأعمال مفلساً و من الأموال خالياً لم يكن مستعداً لرحمة اللّٰه، فليس للإنسان إلا ما سعي، و من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً، فتمام العلم بالتعليم، و من لم يعمل بعلمه لم ينل أجراً عليه.

إن عملية التعليم الإسلامي يمكن تفسيرها بعنصرين أساسيين: ۱. الكون  ۲. الإنسان، فالكون مخلوق، و في النظرة الإسلامية مخلوق للّٰه خلقاً منظماً يسير لتحقيق هدف معين، فالتعليم الإسلامي تعليم متزن، أي أن الجانب النظري فيه لا يطغي علي الجانب العملي أو العكس، كما لا تطغي الواقعية فيه علي المثالية، إنه مبادئ: الخلق الهادف و الوحدة و الاتزان، و الإنسان في المفهوم الإسلامي يتكون من جسد و روح و سلوك و انفعالات، هو مخلوق بشري متزن، و وظيفة التعليم الإسلامي الاهتمام لهذا المخلوق من جميع الأبعاد العقلية و الجسمية و الإنفعالية و الإجتماعية و الروحية، فالتعليم الإسلامي من هذا المنطلق ينظر إلي الإنسان ككل و كوحدة متناسقة متناغمة منسجمة متزنة و لا يهتم بجانب من جوانب الإنسان دون الآخر. [ ملخص من كتابات إحياء علوم الدين و ميزان العمل و الرسالة اللدنية للفيلسوف الإسلامي الإمام أبي حامد محمد الغزالي ]

خصائص منهجية للإسلام في مجال التعليم

إن أسس التعليم و آدابه عند المسلمين مدينة بأصولها إلي القرآن و السنة، رغم أنها تيلورت علي مر الأيام كما تظهر في المؤلفات المتخصصة. و من أقدم الآداب المنهجية الإسلامية ظهوراً ما يتعلق بتنظيم مجالس العلم و الحلقات العلمية، فقد نهي الرسول ﷺ عن الجلوس في وسط الحلقة. [ أبو داود: ۲۵۸، الترمذي: ۲۷۵۳، الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع للخطيب البغدادي ص ۱۷۶ ] و نهي أن يجلس المتعلم بين رجلين إلا بإذنهما. [ أبو داود: ۴۸۴۴ ] و سمح للرجل بالجلوس في المكان إذا فسح له فيه فقال ’’ إذا أخذ القوم مجالسهم فإن دعا رجل أخاه فأوسع له في مجلسه فليأته فإنما هي كرامة أكرمه فليجلس فيه ‘‘ [ مجمع الزوائد للهيثمي: مجلد ۸، ص ۵۹ ] و أمر بحفظ حق الرجل في مجلسه فقال ’’ إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به ‘‘ [ أبو داود: ۴۸۵۳ ]

و من الأسس المنهجية الداخلية للتعليم في الإسلام احترام مجلس العلم و عدم رفع الصوت أو اللغط فيه و التزام السكينة و الوقار، قال أسامة بن شريكؓ: ’’ أتيت النبيﷺ و أصحابه فكأنما علي رؤوسهم الطير ‘‘ [ أبو داود: ۳۸۵۵ ]

و يرجع كثير من الآداب المنهجية الشائعة في المعاهد العصرية لطلاب العلم إلي توجيهات السنة النبوية، فاحترام العالم و عدم الالحاح في الاستئذان عليه أو التردد علي منزله و الصبر علي التلقي و تحمل الشدائد في طلب العلم، كل ذلك يمكن أن نقف عليه من الأثر التالي الذي يحكيه ابن عباسؓ، قال: ’’ لما قبض رسول اللّٰه ﷺ قلت لرجل من الأنصار، هلم فلنسأل أصحاب رسول اللّٰه ﷺ فانهم اليوم كثير، قال: وا عجبا لك يا ابن عباس ! أ تري الناس يفتقرون إليك و في الناس من أصحاب رسول اللّٰه ﷺ من فيهم ؟ قال فترك ذلك و اقبلت أنا أسأل أصحاب رسول اللّٰه ﷺ عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه و هو قائل، فأتوسد ردائي علي بابه تسفي الريح علي من التراب فيخرج فيقول: يا ابن عم رسول اللّٰه ﷺ ما جاء بك ؟ ألا أرسلت إلي فآتيك ؟ فأقول أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث. قال: فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتي رآني و قد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: هذا الفتي كان أعقل منّي. ‘‘ [ الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع للخطيب البغدادي: ۱؍۱۵۸،۱۵۹ ]  و ثمة روايات أخري توضح العلاقة بين صغار العلماء و كبارهم، فإحترام الكبير مبدأ إسلامي عام، و قد كان معهوداً في الحياة العلمية أيضاً، كان الصحابي سمرة بن الجندبؓ: ’’ لقد كنت علي عهد رسول اللّٰه ﷺ غلاماً فكنت أحفظ عنه و ما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسنّ منّي ‘‘ [ الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع للخطيب البغدادي: ۱؍۳۱۸ ]

و التبكير في الحياة اليومية و عدم الإخلاد للنوم بعد الفجر سمت عام في المحيط العلمي عند المسلمين، و ابن عمر ؓ يري أن حديث ’’ اللهم بارك لأمتي في بكورها ‘‘ يراد به التبكير في طلب العلم و الصلاة في الصف الأول في المساجد. [ الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر: ۱؍۱۵۰ ] و قد انتبه المسلمون قديماً إلي أهمية التعلم في الصغر و قد أرشدهم الرسول ﷺ إلي تعليم الصغار أحكام الصلاة و تربيتهم عليها و هم في السابعة من العمر، لقد كشف عمر ؓ عن جانب سيكولوجي هام عندما نصح المسلمين بالتعلم في الصغر فقال ’’ تفقهوا قبل أن تسودوا ‘‘ [ صحيح البخاري: ۱۶۵۱ ] لأن الكبير في السن و صاحب الشأن في المجتمع قد يأنفان من السؤال أو الجلوس في حلقات العلم خلافاً للصغير كما أن عمرؓ كان يدرك حدة الذكاء و قوة الإستعداد لدي الصغار، فكان يحرص علي سؤالهم و الإفادة من نباهتهم، و قد استمر هذا المبدأ ’’ التعلم في الصغر ‘‘ يسود حياة المسلمين التعليمية حتي الوقت الحاضر، كما أن التعليم في إطار الحضارة الغربية يلتقي مع التعليم الإسلامي في مراعاة هذا المبدأ.

و قد بين الرسول ﷺ اختلاف الإستعداد العقلي و القدرة علي الفهم بين الناس في الحديث ’’ نضر اللّٰه امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتي يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلي من هو أفقه منه و رب حامل فقه ليس بفقيه ‘‘ [ سنن الترمذي، باب ماجاء في الحث علي التبليغ، حديث رقم: ۳۸۳۲ ] كذلك أدرك الصحابة أثر الأحوال النفسية و الجسمية في عملية تلقي العلم و أوصوا بمراعاة ذلك، يقول ابن مسعود ؓ ’’ أما أني أخبربمكانكم فاترككم كراهية أن أملكم، ان رسول اللّٰه ﷺ كان يتخولنا بالموعظة بين الأيام مخافة السأم علينا ‘‘ [ صحيح البخاري: ۷۰، و مسلم: ۲۱۷۲ ] لقد ترك خروج الصحابة من المدينة المنورة إلي الأمصار مع جيوش الفتح تأثيراً بالغاً في انتشار العلم و تفرق العلماء و قد ظهرت تقاليد علمية استمرت راسخة و تركت آثاراً عميقة في تواصل الحركة العلمية في أرجاء العالم الإسلامي و في توحيد الآداب و المناهج و التقاليد العلمية و في التقريب بين وجهات نظر العلماء الأخري و في إعادة تجميع العلم المنتشر مما شجع الرحلات الطويلة و الأسفار المتلاحقة في طلب العلم، أما السؤال و العرض و المذاكرة فكان هو الأسلوب الشائع في المنهجية التعليمية الإسلامية، بل نجد في الأحاديث و الآثار ما فيه الحث علي السؤال العلمي.[ سنن الترمذي: ۲؍۳۳۷، بخاري: ۳۵۶۸ ]

 

الخاتمة

ملخص القول أن الشريعة الإسلامية قد اهتمت بالعلم اهتماماً، فهو فريضة علي كل مسلم، و وعدت بالأجر العظيم علي طلبه، لقد وردت كلمة العلم في ۴۲۶ موضع من القرآن الكريم، و أعلت مكانة العلماء حتي اعتبرتهم ورثة الأنبياء. [ أبو داود:  ۳/۳۱۷، الترمذي: ۵/ ۴۹ ] و أرست قيماً ثقافية تضمن استمرار التقدم العلمي، فالعلم حق للجميع و ليس حكراً لفئة معينة ما يؤدي للارتفاع للمستوي الثقافي لجمهو الأمة، و العلم يجب أن يقترن العمل و السلوك و الممارسة، و هو دليل توفيق اللّٰه للإنسان، ’’ من يرد اللّٰه به خيراً يفقهه في الدين ‘‘ و فقه الدين يقتضي فهم الحياة و النظر إلي أحداثها و قضاياها وفق مفاهيم الإسلام الذي انتظم جوانب الحياة المتنوعة، فلا عجب إذا ما تفتحت بصيرة المسلم علي جوانب الإجتماع الإقتصاد و الحس و الذوق و قيم الجمال بصورة أرحب و أعمق و أشمل كلما ازداد بصيرة في دينه.

و العلم يترتب عليه مسؤولية دينية، فالعالم  يسئل عن موقفه العلمي يوم القيامة، ’’ لا تزول قدما عبد حتي يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه و شبابه فيما أبلاه و عن ماله من أين اكتسبه و فيما انفقه و عن علمه ماذا عمل به ‘‘ [ سنن الترمذي: ۲۴۱۷، و الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع للخطيب البغدادي، ص ۸۸،۸۹ ] و العالم مسؤول عن نشر العلم و عدم كتمانه، ’’ من سئل عن علم نافع فكتمه جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار ‘‘ [ سنن أبي داود: ۳۶۵۸، و الترمذي: ۲۶۴۹، و ابن ماجه: ۲۶۶ ] و العلم بحر لا ساحل له، و لا يمكن للفرد الإحاطة به: { وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء: ۸۵ ] لذلك لابد من الإستمرار في طلبه دون الإنقطاع، و قد اثمرت هذه القيم الثقافية حركة فكرية ظاهرة حيث صار ’’ التعلم المستمر ‘‘ و ’’ تراكم المعرفة ‘‘ و ’’ تجميع العلم ‘‘ و دراسته بصورة منظمة من أبرز خصائص الحركة الفكرية في عصور الإسلام الذهبية.

و كانت الشريعة الإسلامية ترتكز علي مفهوم أن العقل و حرية الفكر مناط التكليف، و طالب الإسلام أتباعه بالبحث الحر عن الدليل و البرهان و أنكر تقليد الآخرين، فلم يظهر في الإسلام كهنوت يدعي احتكار فهم الإسلام و حق تفسير نصوصه كما حدث في تاريخ الأديان الأخري، بل بوسع كل مسلم أن يرجع إلي القرآن و السنة و أن يتضلع في علومهما و يأخذ بعد ذلك عنهما و يناقش الآخرين في صحة الدليل و طريقة الاستدلال. إن التأمل في المنطلقات المنهجية الإسلامية للتعليم يكشف عن مبادئ أساسية تتمثل في تحقيق العبودية للّٰه و الكرامة و الحرية و العلم و العدل و المساواة و الشوري للإنسان الذي يتجه إليه الخطاب الإسلامي في مطلق الزمان و المكان.

نذكر بايجاز شديدسمات أساسية لفلسفة التعليم الإسلامي.

۱. إن معظم المناهج التعليمية و النظم الدراسية تلتقي علي فكرة ايجاد المواطن الصالح، و لكن التعليم الإسلامي يهدف إلي ايجاد الإنسان الصالح، و هذا الهدف أكبر و أشمل و يعتبر هدفاً عالمياً للتعليم و التربية، فالتعليم الإسلامي كالحضارة الإسلامية عبارة عن خلاصة تفاعل ثقافات و آداب شعوب مختلفة.

۲. التعليم الإسلامي يشمل جميع أنواع المعرفة المفيدة للفرد و المجتمع ( الجماعة ).

۳. التعليم الإسلامي يتسم بالتوازن بين أنواع المعرفة، فلا يزيد العلوم النظرية علي حساب العلوم العملية أو بالعكس.

۴. الاهتمام بالزامية التعليم و مجانيته، فطلب العلم فريضة علي كل مسلم و مسلمة، و لم يحدد الإسلام الزامية التعليم بكل دقة و تعيين، لأنها تختلف باختلاف الظروف المحيطة بالمجتمع.

۵. التعليم الإسلامي استمراري و يستمر طول الحياة لقوله تعالي مخاطباً رسولهﷺ: { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه: ۱۱۴ ] ولقوله: { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَائُ  وَفَوْقَ كلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [ يوسف: ۷۶ ]

۶. الاهتمام بتكافؤ الفرس في التعليم للجميع، و أفراد المجتمع الإسلامي متساوون في التعليم و في كل شيئ. { يا أَيها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكم مِّن ذَكرٍ وَأُنثَي وَجَعَلْنَاكمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكمْ عِندَ اللَّه أَتْقَاكمْ إِنَّ اللَّه عَلِيمٌ خَبِيرٌ  } [ الحجرات: ۱۳ ]

۷. استعمال المعرفة يجب أن يكون محكوماً بضوابط أخلاقية، لأن المعرفة سلاح ذو حدين و يتوقف ذلك علي طريق استعمال المعرفة علي أسس أخلاقية، لقول الرسول الكريم ﷺ: ’’ خير الناس أنفعهم للناس ‘‘

۸. يرفع الإسلام قيمة العلم و الاهتمام بالتعليم. { قُلْ هلْ يسْتَوِي الَّذِينَ يعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يعْلَمُونَ } [ الزمر: ۹ ] { يرْفَعِ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنكمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [ المجادلة: ۱۱ ]

۹. يعتمد الإسلام علي أخذ المعرفة المفيدة من أي مكان، و التي لا تتنافي مع القيم الإسلامية.

۱۰. طرق الحصول علي المعرفة في التعليم الإسلامي مختلفة و مفتوحة و عامة: عن طريق السمع و القراء ة و البصر و عن كافة الطرق. { وَاللّٰه أَخْرَجَكم مِّن بُطُونِ أُمَّهاتِكمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيئاً وَجَعَلَ لَكمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَة لَعَلَّكمْ تَشْكرُونَ } [ النحل: ۷۸ ] { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كلُّ أُولٰٓـئِك كانَ عَنْه مَسْئُولاً } [ الإسراء: ۳۶ ]

۱۱. الاهتمام بالروح أو الناحية الروحية، لأن التعليم في الإسلام غايته عقد الصلة الدائمة بين الإنسان و اللّٰه تعالي أو وصل القلب البشري باللّٰه عز و جل، و من مظاهر التعليم الروحي علي سلوك الفرد  الخشوع و التقوي و مراقبة اللّٰه في كل أمر من أوامر الحياة و حب اللّٰه و التطلع الدائم إلي إرضائه و الإطمئنان إليه في السراء و الضراء و التوكل عليه لا التواكل.

۱۲. الاهتمام بالنمو الإنفعالي أي الوصول بالفرد إلي نضوج إنفعاله، و هو أن لا يكره إلا الشيئ السيئ و ألا يغضب إلا في وقت الغضب و الإسلام يعترف بجميع الإنفعالات النفسية البشرية و يوازن بين هذه الحاجات.

۱۳. الاهتمام بالنمو العقلي، و يحدد الإسلام مجالات النمو العقلي ليس علي سبيل عدم الإعتراف بالعقل و طاقته و إنما علي سبيل إثارة الطاقات العقلية و التفكير و التأمل في حكمة اللّٰه أي أن هناك حرية للتفكير العقلاني و المظاهر الخارجة عنه.

۱۴. الاهتمام بتدريب العقل علي طرق الإستدلال المستمر أي طريقة التفكير و استخدام البرهان و عدم الاعتماد علي الظن ثم التثبت من الأمر قبل الإعتماد عليه.

۱۵. تنمية الشعور بالمسؤولية في كل فرد مهما كانت وظيفته، و تنمية الشعور بالانتماء للجماعة و التأكيد علي وحدة المجتمع و تنمية الروح الإيجابية و القيام بأداء الواجب.

فهرس المصادر

۱. القرآن الكريم

۲. كتب السنة

۳. جامع بيان العلم و فضله:  أبو عمر يوسف بن عبدالبر

۴. الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي

۵. المنهجية الإسلامية و العلوم السلوكية التربوية: انور ماجد عشقي

۶. الفلسفة و التربية، محاولة لتحديد ميدان فلسفة التربية: صادق سمعان

۷. مقدمة في فلسفة التعليم و التربية: محمد لبيب النجيحي

۸. أسس التربية: إبراهيم ناصر

۹. دراسات مقارنة في التربية الإسلامية: أبو الفتوح التوانسي

۱۰.  أسس التقدم عند مفكري الإسلام: فهمي جدعان

۱۱. الإسلام أثره في الحضارة و فضله علي الإنسانية: أبو الحسن علي الحسني الندوي

۱۲. العولمة و التربية: صالح بن مبارك الدباسي

۱۳. إحياء علوم الدين: الإمام أبو حامد محمد الغزالي

۱۴. ميزان العمل: الإمام أبو حامد محمد الغزالي

۱۵. الرسالة اللدنية: الإمام أبو حامد محمد الغزالي

۱۶. تعليم المتعلم و طرق التعلم: برهان الدين الزرنوجي

۱۷. فضل العلم و آداب طلبته و طرق تحصيله و جمعه: محمد سعيد رسلان

۱۸. الإصابة في تمييز الصحابة: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: علي البجاوي

۱۹. نحو تربية إسلامية راشدة: محمد بن شاكر الشريف

۲۰. معالم في طريق طلب العلم: عبدالعزيز بن محمد السدحان

۲۱. تذكرة السامع و المتعلم في آداب العالم و المتعلم: أبو اسحاق بن جماعة الكناني

التعليقات مغلقة.