أحكام الحجاب في القرآن
الأستاذ أمين أحسن الإصلاحي
تعريب: الأستاذ عبد الحسيب الإصلاحي
مقدمة المترجم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
فيسعدني أن أقدم لإخواننا الناطقين بالضاد رسالة لفضيلة الشيخ الأستاذ أمين أحسن الإصلاحي بعد تعريبها، وهو من أعلام علماء الهند وباكستان، ومن كبار تلامذة ترجمان القرآن الإمام عبد الحميد الفراهي الهندي ، وكان الإمام الفراهي نسيج وحده وفريد دهره، ومن أعلام المفسرين في هذه القارة، وهو صاحب تفسير «نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان»، وكثير من المؤلفات القرآنية القيمة، وتلميذه الشيخ الإصلاحي قد حذا حذو أستاذه الإمام الفراهي ونسج على منواله، فألف باللغة الأردية كتبًا متعددة ممتازة حول علوم القرآن ومعارفه وحقائقه وأسراره، أعظمها تفسيره المسمى «تدبر القرآن» في تسعة مجلدات ضخمة.
أما هذه الرسالة فقد ألفها الشيخ بالأردية في أواخر الأربعينات، حينما كانت الصحافة الباكستانية ميدانًا للمعارك القلمية حول الحجاب من مؤيد له ومعارض، فلما رأى فضيلته أن لهذه المسألة ــ مسئلة الحجاب ــ من الأهمية والخطورة ما يجعلها أساسًا لجميع مسائل المجتمع وعمادًا لسرور الحياة العائلية ورفاهيتها، وأن لها دورًا كبيرًا في ضعف الحكومة وقوتها فضلًا عن صلاح الأفراد وفسادهم، فالانحراف عن جادة الحق فيها والتهاون في أمرها يقضي على المجتمع والدولة وجميع القيم الخلقية على سواء، ولما رأى أن كلا من هؤلاء المعارضين والمؤيدين لا يعرفون محل الآيات التي جاءت فيها أحكام الحجاب ويؤولونها غير تأويلها لم ير بدًا من أن يبين الموقف القرآني الصحيح من ذلك، لئلا يكون عذر لمن أراد أن يصر على مخالفته بعد ذلك، ولئلا يكون أهل الحق في حيرة وتردد ولا يخبطوا خبط عشواء، بل يكونوا على نور وبصيرة ويقين وثقة، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
وقد نقلت هذه الرسالة آنذاك إلى اللغة الإنجليزية، وقد طبعت خلال هذه المدة طبعات عديدة في آلاف مؤلفة، ونالت الرسالة في الأوساط الإسلامية العلمية في شبه القارة الهندية والباكستانية قبولًا عامًا، ولقيت كل إعجاب وتقدير، ووافق عليها العلماء وصبوا عليها وابل الثناء، فإنها جاءت كفصل الخطاب في مسألة الحجاب، وكقول الحق والإنصاف في أشد الخلاف، وجاءت بأصح التأويل للآيات التي اختلفت فيها الأقاويل، وجاءت بأكمل التوضيح لمحل الآيات الصحيح، وقطعت هذه الرسالة الوجيزة قول كل خطيب ومعاند.
وكانت الحاجة ماسة أن تنقل الرسالة إلى العربية، فترجمتها بها قبل مدة، ونشرت هذه الترجمة في مجلة «المجتمع» الكويتية الشهيرة في عددها الصادر في 14/1/1397هـ، ثم نشرت في صورة رسالة مستقلة صدرت سنة 1401هـ من الدائرة الحميدية في أعظم كره بالهند، والآن نقوم بإصدارها في «مجلة الفلاح»ليعم نفعها والاستفادة منها، ولتكون أداة صالحة ومادة نافعة في بناء أسرة مسلمة ومجتمع أفضل يقومان على أسس الإسلام وتعاليم القرآن وعلى سنة من جاء به، وذلك ما كنا نبغي وذلك ما يحتاج إليه العالمان الإسلامي والعربي.
وتمتاز هذه الطبعة بما فيها من زيادات نافعة وتعليقات مفيدة قد اقتبستها من تفسير المؤلف المسمى بتدبر القرآن، فقد كتب في تفسير آيات الحجاب التي وردت في سورتي النور والأحزاب بتوسع، فهذه التعليقات مقتبسات من تلك البحوث القيمة المهمة التي استغرقت صفحات عديدة من تفسيره.
ولله الحمد في الأولى والآخرة، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
أحكام الحجاب في القرآن
أحكام الحجاب في القرآن تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يشتمل على أحكام أمر بها أزواج النبي ﷺ أو أمر بها المسلمون، ولكن قد أجمعت الأمة على أنها ليست بمختصة بأزواج النبي ﷺ وكفى، بل هي عامة لنساء الأمة من أزواج وأخوات وبنات. فهي أحكام تعم نساء الأمة، وإن كان الخطاب موجها إلى أزواج النبي ﷺ وحدهن، لأن هذه الخطوة الخطيرة الأولى لإصلاح المجتمع لما كانت صعبة شاقة بدأ بها القرآن من بيت النبي ﷺ، ولما كانت أزواج النبي ﷺ قدوة لجميع المسلمات كن جديرات أن يتكلفن هذه الأحكام ويحملن مسؤوليتها بكل قوة وشدة. وهذه الأحكام قد وردت في الآيات التالية:
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾[الأحزاب: 32-33].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54). لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ۗ وَاتَّقِينَ اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا .﴾[الأحزاب: 53-55].
القسم الثاني: وفيه أحكام خوطب بها أزواج النبي ﷺ وعامة المؤمنات. وهذهالآيات تصرح أن امرأة مؤمنة إذا أرادت الخروج من بيتها لشأن من شؤونها فما هي منالقيود والآداب التي يجب أن تتقيد وتلتزم بها. وهذه الأحكام ذكرت في الآية التالية:
ﭧ ﭨ ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا . لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا . مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ( [الأحزاب: 59- 60].
القسم الثالث: وفيه أحكام خوطب بها المسلمون والمسلمات في أمر دخول الدار وهي تفصل أن مسلمًا إذا دخل بيت أخ مسلم فما هي الشروط والآداب التي يلتزم بها هذا الداخل؟ وبجانب آخر ما هي القيود التي يجب على النساء داخل الدار أن يتقيدن بها؟ وقد ذكرت هذه الأحكام في سورة النور.
والآن نأتي بتفاصيل أحكام الأقسام الثلاثة فيما يلي:
أحكام القسم الأول:
خاطب القرآن أزواج النبي ﷺ وأمرهن بأحكام الحجاب فيما يلي من الآيات:
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾( )[الأحزاب: 32-33].
ثم خاطب المؤمنين وأرشدهم إلى الآداب التي يجب عليهم الالتزام بها إذا مستهم الحاجة إلى دخول بيت من بيوت النبي ﷺ:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً .إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً . لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً [الأحزاب: 53-55].
الأحكام التي تتضمنها تلك الآيات:
لا ينبغي للنساء أن يكلمن رجالًا غير محارم لهن على العموم إلا أن تمسهن الحاجة إلى ذلك في أمر خاص فإذا فعلن فلا يخضعن بالقول، ولا تخرج من أفواههن كلمة تثير في نفوس السامعين نزوعًا وتوقعهم في طمع.
بيت المرأة المسلمة هو مكانها الأصيل ﴿ﭶ ﭷ ﭸ﴾فلا تخرج من بيتها إلا إذا مستها حاجة. أما خروج النساء متبرجات للتنزه والتفرج والتجول فهو جاهلية، وليس لامرأة مسلمة حرة كريمة أن تتبع طريقة الجاهلية.
ج- إذا دعا مسلم أخًا له إلى الطعام فلا يدخل بيته إلا بعد أن يستأذنه، وإنما يدخل في وقت حضور الطعام، لا أن يصل قبل موعد الطعام بساعات يرتقب نضجه. ثم إذا انتهى من الأكل خرج ولا يمكث فيه للسمر والأخذ بأطراف الحديث، فإن ذلك يخل بحرية أهل البيت واهتمامهن بالحجاب.
د- وإذا أراد أحد أن يسأل أهل البيت شيئًا فله أن يسأل من وراء حجاب، لا أن يهجم عليهن هجومًا.
هذه القيود على ذوي القرابة أيضًا إلا أن يكونوا محارم من آبائهن وإخوانهن وأبناء أخواتهن أو ما ملكت أيمانهن. أما النساء فلا تدخل منهن إلا الأخوات المؤمنات المحسنات العفيفات فإن الخبيثات والمنافقات منهن ربما أثار اختلاطهن بالنساء المؤمنات فتنًا شديدة. وفي قصة زينب أكبر شاهد وأعظم دليل على ذلك.
القسم الثاني: الحجاب خارج البيت:
يتضح جليًا بالآيات السابقة أن الإسلام يوجب على المرأة في الأحوال العامة أنتقر في البيت، ولا تخرج منه إلا إذا مستها حاجة شديدة، وإنما أذن لها بالخروج لأمر خاص، وإذا خرجت لمثل ذلك الأمر فليس لها أن تخرج كيفما شاءت، بل عليها أن تخرج وقد ألقت على رأسها جلبابًا، وأرخت شيئًا منه على وجهها. فقال الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا الأحزاب: 59].
وردت في الآية كلمة الجلباب، والجلباب ــكما نصت المعاجم ــ ملاءة واسعة ضافية. وكانت الحرائر في العرب لا يخرجن إلا وقد تجلببن بما لهن من الجلابيب، كما هو المعتاد عندنا في الهند وباكستان في الأسر الشريفة، فيتغطين بملاءات واسعة وقت الخروج يؤثرونها على البراقع الجديدة العصرية اللامعة الشفافة والتي تجذب الأنظار. وإني أعتقد أن هذه الملاءات الواسعة الضافية أشد سترًا للأجسام من البراقع وأحفظ لها من سوء النظر. فهذا الجلباب هو الذي قد حل محله البرقع في عصر التقدم، فلا مانع من النقاش حول البرقع، هل هو يفي في صورتها الجديدة الراقية بالغاية المنشودة التي أرادها الإسلام من إدناء الجلابيب وإرخائها على الوجوه أو لا؟ ولكن لا مبرر لأحد أن يقول: إن البرقع صنيع العلماء الرجعيين ولا يمت إلى الإسلام بصلة.
القسم الثالث:الحجاب داخل البيت:
لنا أن نتدبر الآن الآيات التي وردت في سورة النور في أمر الحجاب داخل البيت ولكن هناك أمورًا يجب إليها الالتفات قبل تدبر تلك الآيات:
إن هذه الآيات في ذوي القربى والأرحام وخدم البيوت من الموالي والتابعين وأهل الثقة من الأصدقاء، ومما لا يخفى أن الحياة الاجتماعية ولذتها ونعمتها ورفاهيتها وسهولتها أمور تقتضي أن لا يحول شيء دون دخول أهل العلاقة للبيوت، وترددهم إليها، ومخالطتهم ومؤاكلتهم مع أهلها مجتمعين وفرادى. هذا، وبجانب آخر يطلب الإسلام وما فيه من الاهتمام والمحافظة على القيم الخلقية أن يقيد هؤلاء بقيود والتزامات، لئلا يتطرق بعدها إلى الحياة البيتية سوء النظر وفساد السلوك. ولما كان الإسلام دين الفطرة اعتنى بهذين الأمرين بكمال الاعتدال والاتزان.
وليكن منك على ذكر أن العرب في عهد البعثة لم يعرفوا النظام العائلي المشترك(Joint Family System)السائد في بعض أجزاء بلادنا. بل كان أحدهم إذا بلغ وتزوج امرأة يفرد له أبوه القيم عليه بيتًا خاصًا، فالأب في بيت والعم في بيت والأخ في بيت والأخت في بيت والأب نفسه في بيت منفرد به. هكذا تتفرع من أسرة واحدة بيوت متعددة تكون منفصلة بعضها عن بعض من ناحية، ومتصلة بعضها ببعضــ من ناحية أخرىــ بالعلاقات الفطرية والاجتماعية.
كان العرب في بداوتهم على سذاجة العيش وبساطته، فلم تكن على الأبواب بيوت معدة للضيافة منفصلة عن السكن، وإن الدور لم تكن يومئذ عليها ستور.
لك أن تضع بين عينيك هذه الأمور الاجتماعية والمدنية للعرب آنذاك، ثم تتلو هذه الآيات التالية من سورة النور:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ. قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ۔ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ۔ ( )[النور: 27-31].
الحجاب في داخل البيت وأحكامه الأساسية:
في الآيات المذكورة أحكام لمن أراد أن يدخل بيتًا من بيوت المسلمين وهي فيما يلي:
ليس لمؤمن أن يدخل بيتًا من بيوت المسلمين المسكونة للنساء إلا بعد أمرين:
الأول: أن لا يكون غريبًا عن أهل البيت، بل يكون بينهما أنس وائتلاف وارتباط.
والثاني: أن يستأذنهم للدخول بأن يسلم عليهم. أما الأنس فله صور وأشكال، منها:أن يكون هو من ذوي أرحام أهل البيت ومن أهل قرابتهم، ومنها: أن يكون من أصدقائهم الموثوق بهم، ومنها: أن يكون من خدامهم ومواليهم.أما التسليم فهوخير طريق للاستئذان وجامع للأدب والبركة، وطريقته المذكورة في الحديث أن يقوم لدى الباب ويسلّم على أهل البيت ثلاث مرات، فإن لم يرد عليه فليرجع.
وإن لم يكن في البيت صاحبه فلا يدخله حتى يؤذن له. وإن قيل له: ارجع، فليرجع بغير تلكؤ ولا انتظار ومن غير أن يشعر بغضاضة في نفسه.
أما البيوت غير المسكونة للنساء فليس لدخولهاشرط ذلك الاستئذان كالبيوت التي تكون خاصة للرجال فهي خارجة عن أمر الاستئذان فلهم أن يدخلوها من غير استئذان.
وعلى الداخل للبيوت المسكونة أن يغض بصره ويحفظ فرجه.
وعلى المؤمنات اللاتي كن في البيوت:
أن يغضضن من أبصارهن.
وأن يحفظن فروجهن.
وأن يحتفظن بأنفسهن وألبستهن بحيث لا يبدوشيء من زينتهن، وإنما استثنى منها ما لا بد من ظهورها من الجانب الظاهر من اللباس وغيره.
وأن يضربن بخمرهن على جيوبهن.
ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن.
هذه أحكام يجب العمل بها على جميع ذوي القرابة سواء كانوا من أهل المحارم أو غيرهم، وعلى جميع أهل الخدمة. وأما الذي نهيت عنه المرأة من إبداء زينتها فقد استثنى القرآن منه الأزواج والمحارم من الآباء والإخوان وأبناء الأخ وأبناء الأخت وغيرهم، وكذلك اشترط للخادمين غير أولي الإربة تصريحًا بأن الخادم إذا كان شابًا فليس للمرأة أن تبدي له زينتها، ولما كان ذكر كل من الخادم والمولى في الآية ذكرًا مستقلًا فلا مبرر لأحد أن يقيس الخادم على المولى وشتان بين خادم ومولى فإن هناك أمورًا اجتماعية ونفسية تفصل بينهما فصلًا.
وهكذا استثني الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم كما استثنيت الأخوات المؤمنات الصالحات وهذا يدل أنه يجب عليهن أن لا يبدين زينتهن للعواهر، والمريبات منهن لئلا يوقعنهن في فتنة.
توضيحات وتبيينات لأمور هامة:
هذه أحكام أساسية للحجاب الداخلي نزلت في سورة النور، وقد مرت بك. ثم نزلت آيات تبيينًا وتوضيحًا لهذه الأحكام بعد ما نشأ وجرى على ألسنتهم من الأسئلة حول هذه الأحكام وها هي:
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور: 58-60].
رخص وما لها من الحدود
وقد تضمنت هذه الآيات ثلاثة أمور:
ليس للموالي والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم شرط الاستئذان للدخول إلا في ثلاثة أوقات: قبل صلاة الفجر، وفي الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء لأنه لا يكونفيها تستر أهل البيت،فإن دخلوا بغير استئذان فربما يقع نظرهم على حال لا يليق بهم إن يروهم عليها،فكأنهتخفيف من الرب في الأحكام السابقة نظرًا للحاجة.
هذه الرخصة للأطفال ما داموا صغارًا ولم يخرجوا من حد الطفولة، ولكن إذا بلغوا الحلم عادشرط الاستئذان الذي ذكر من قبل للمؤمنين عامة.
أما العجائز فخير لهن أن يأخذن أنفسهن بأحكام الحجاب، ويراعينها حق المراعاة، ولكن ما عليهن من سبيل إذا لم يلتزمن بأحكام الحجاب داخل البيت وخارجه غير متبرجات بزينة، مثلًا لا جناح عليهن إن لم يدنين من جلابيبهن وأن لا يضربن بخمرهن على جيوبهن.
دفع الشبهة
ثم التفت القرآن بعد هذه إلى دفع شبهة نشأت من الأحكام السابقة في قلوب كثير من الناس. وهي أنهم ظنوا أن الإسلام قد قيد الاختلاف إلى البيوت بحدود وقيود وما غادر ذوي القرابة حتى الأداني منهم إلا كلفهم بها فضلًا عن الآخرين، فلعل الإسلام يريد أن يقضي على ما كانوا متمتعين في المجتمع من الحريات والنشاطات الاجتماعية، ويكره الإسلام أن يكون بين أهل القرابة والصداقة من حرية المداخلة والمخالطة ولذة المؤاكلة كما ظن بعضهم أنه كان هناك كثير من أقاربهم المرضى وأولي الضرر يلزمون بيوت ذوي قرابتهم، ولكن نزول هذه الآيات والأحكام أذهب عنهم هذه الحرية وراحتها، فأزال القرآن هاتين الشبهتين بأنه ليس المقصود من وراء هذه القيود القضاء على النشاطات الاجتماعية، ولا التضييق على المرضى والعجزة.
بل أنتم أحرار في الاختلاف إلى بيوت الأقرباء والأصدقاء في الأكل من بيوتهم مجتمعين أو متفردين.
نعم عليكم أن تستأذنوا أهل البيت بالتسليم عليهم، وإن كبر عليكم هذا الأمر فعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم ويعود عليكم وعلى أهل البيت ببركات جمة وفوائد عظيمة فقال :
﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ۚ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[النور: 61].
خلاصة الكلام
قد تبين مما ذكرنا من قبل أن أحكام الحجاب في القرآن على نوعين، فإن المرأة لا يخلو أمرها من هاتين: إما أن تضطر هي للخروج من البيت، وعسى أن تتعرض لغير ذويها، وإما أن تكون في البيت ويدخل عليها رجل من أقاربها، أو من أقارب زوجها، أو خدمه ومواليه وأمثالهم. فللصورة الأولى أحكام في سورة الأحزاب، وهي أنتخرج بجلباب وقد أدنت شيئًا منه على وجهها، وللصورة الثانية أحكام وردت في سورة النور.
ولهذه الثانية أحكام أساسية آتية:
لا يدخل غريب غير مستأنس بيت أحد من المسلمين.
لا يدخل أحد من المستأنسين إلا أن يؤذن له.
وإذا دخل أحد فليغض بصره، ويحفظ فرجه وعورته.
وعلى نساء البيت أن يغضضن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين من زينتهن إلا ما لا بد من ظهورها، ويضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يضربن بأرجلهن على الأرض.
ولا يبدين زينتهن إلا للأزواج، والمحارم، والخدم غير أولي الإربة، أو الذين لم يخرجوا من حد الطفولة، فلا جناح في إبداء زينتهن لهم.
الموالي والأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في الأوقات الثلاثة فإنها أوقات عورة وغفلة فإذا دخل فيها أحد بغتة عسى أن يطلع على ما يأباه الوقار والحشمة ولا يطيب لهما.
أما العجائز فلهن رخصة أن يضعن ثيابهن، وألا يضربن بخمرهن على جيوبهن، إن لم تكن من نيتهن إبداء زينتهن على أن الالتزام بأحكام الحجاب والاستعفاف خير لهن.
الأحكام الأساسية وما فيها من رخص:
هذه أحكام الحجاب الأساسية وقوانينه الرئيسية قد بينها القرآن نفسه ولا يتطرق إليها شك ولا خلاف. وإنما كان يخشى الاختلافــ ومن الأسف أنه قد وقع فعلًاــ في فهم الآيات فترى كثيرًا من الناس يخطئون في فهم الأحكام التي هي في سورتي الأحزاب والنور، ويغفلون عن محل الآيات وموقعها فيهما. فكل ما كتب حول هذه المسألة فيه تناقض شديد، وهذا التناقض قد وضع السهام في أيدي الطاعنين في الحجاب أكثر مما أعطاها الداعين إليه والموالين له. وفي هذه المقالة أزيل هذا التناقض وعين محل آيات الحجاب تعيينا صحيحًا حتى لم يبق لعادل يخاف الله أن يحيد عن الحق ويضل ولا ينحرف عنه بعد ذلك إلى مدل بباطل، أو جاهل. ولا يرجى من أمثال هؤلاء أن يخضع للحق ويتبعه وإن كان الحق واضحًا وضوح الشمس في رابعة النهار.
كل من نظر في هذه الأحكام لم يخف عليه أن الله شرع الحجاب في داخل البيت وخارجه على سواء أحكامًا واضحة مفصلة لا ترى فيها من خفاء ولم يغادر من أصولها إلا وقد بينها.
نعم كانت هناك فروع وجزئيات لم يتعرض لها القرآن، وتركها لاجتهاد العلماء أو قد بينها خاتم الأنبياء فترى أن لنا رخصًا في بعض الأحوال والأحيان قد فسرها النبي ﷺ مثل رجل يريد أن يتزوج امرأة فيأذن له الشرع أن ينظر إليها، وكذلك للشرطي أو صاحب القضاء أن ينظر إلى امرأة إن مسته الحاجة إلى معرفتها، كما أن للطبيب أن ينظر إلى امرأة أجنبية أو يمسها، وكذلك الأحوال المفاجئة غير المعتادة (حالات الطوارئ) توجد فيها رخصة وتخفيف إلى حد كبير، مثلًا إذا أصاب المرأة حرق أو أشرفت على غرق فهي أولى وأحرى بالإنقاذ من الهلاك ولو بمخالفة شيء من أحكام الحجاب المشروعة، وكذلك في السفر لا سيما في سفر الحج وفي حالة الحرب استثناءات من الكليات وترخيصات بدل التأكيدات نظرًا للحاجة والمصلحة وقد صرحت بها الأحاديث النبوية.
وهناك مسائل فرعية وضمنية قد صرح بها الأئمة المجتهدون وتوجد في كتب الفقه ولا يغب عن بالك أن جميع هذه المسائل الفرعية قد أخذت من أصولها من أحكام الحجاب وبنيت على قواعدها. ولنا ــ إن مست الحاجةــ أن نضم إلى تلك المسائل الفرعية مسائل نستنبطها من الجزئيات ولكن لا مبرر لنا أن نجعل هذه المستثنيات قواعد أصلية، ونأتي على أحكام الحجاب الأساسية ونهدمها هدمًا.
ولا يجترئ في أمر الدين على مثل ذلك إلا من كان جاهلًا بأمر الشريعة.
وأما الذي نراه في الروايات والأحاديث النبوية أن بعض أزواج النبي ﷺ وأزواج المؤمنين لم يراعين في الحرب أحكام الحجاب حق المراعاة، فهذا دليل أن الإسلام لا يطالب أهله العمل بأحكام الحجاب في الأحوال غير المعتادة لمطالبته في الأحوال المعتادة، لكن لا يستدل بذلك أن الإسلام لم يأمر بالحجاب أصلًا، والنساء حرائر في جولاتهن سافرات غير محتجبات. إن كان هذا الاستدلال صحيحًا جاز أن يقول شخص: إن الإسلام لم يأمر بالتوضؤ فإن كثيرًا من الروايات يفيد أن الصحابة صلوا أحيانًا بعدما تيمموا ولم يتوضؤوا، وقال آخر: إن القيام ليس من أركان الصلاة فإن كثيرًا من الصحابة والصحابيات ربما صلوا جالسين غير قائمين فإن كان هذا الاستدلال باطلًاــولا شك في بطلانهــ فكيف يصح قول من يقول إذا رأى في أمر الحجاب بعض المستثنيات في أحوال خاصة:إن الإسلام لم يأمر بأحكام الحجاب أصلا. وإنما اختلقها العلماء الرجعيون، وأقحموها في المجتمع المسلم، وما هي من الإسلام في شيء.
شتان ما بين الحجاب المعروف في المجتمعوبين الحجاب المطلوب في القرآن:
قد اتضح جليًا بما سبق أن أحكام الحجاب في القرآن مفصلة وثبت أن ما أمر الرجال والنساء به من غض البصر فهو يتعلق بداخل البيت، حيث يكون المداخلة والمخالطة بين ذوي القرابة والصلة والعلاقة. وأما خارج البيت فلا مناص فيه من إدناء الجلباب وهذا ما ذكر في سورة الأحزاب. كما ثبت أن النهي عن إبداء الزينة واستثناء الزينة الظاهرة بنفسها بدون قصد، هو ما دامت المرأة في البيت. ومن ظن أنه حكم لخارج البيت فهو لم يتدبر القرآن، وأتى بأقوال يخالف بعضها بعضًا وترى فيها تناقضًا شديدًا.
هذا وقد ثبت فيما مضى أن السفور نفور من هدي القرآن كما ثبت أن الحجاب المألوف في المجتمع لا يلائم الحجاب المطلوب في القرآن إلى حد كبير لا سيما أمر الحجاب في البيت فهو الآن على غير ما يريده القرآن. فإما حرية مطلقة آثمة لا يقيدها قيد، ولا تقف عند حد، وإما تقيد بقيود مبتدعة غير ملائمة ما كتبها الله عليهم وما أنزل الله بها من سلطان. فالواقع أن الأقرباء وأولي الأرحام يعاملهم الناس في أمر الحجاب أحيانًا معاملة الأجانب أو بمجرد أن يكون بينهم شيء من القرابة والعلاقة يزول كل حجاب ولا يحول شيء دون اللقاءات والزيارات.
ونتيجة لهذا الإفراط والتفريط تفقد تلك المؤانسة والمخالطة التي يحب الإسلام دوامها واستمرارها، هذا بجانب، وبجانب آخر يضر ذلك بالأخلاق التي يحرص عليها الإسلام ويصونها بكل رخيص وغال ولا يتهاون في أمرها أبدًا، والتي يزول المجتمع الإسلامي بزوالها.
والطريق السوي بين الإفراط والتفريط أن نتمتع بما أذن لنا القرآن ولا نستحيي في ذلك، ونذهب إلى حيث يذهب بنا القرآن، كما أن نراعي تلك القيود التي قد فرضها علينا. هذا هو الطريق الوحيد لتكوين بيئة إسلامية نظيفة تتجلى فيها العفة والحرية بكمال الاعتدال والاتزان، وفي مثل هذه البيئة الطاهرة الطيبة النقية تتم تربية النفوس وتزكيتها الإسلامية التي قد أرادها وأحبها الله ورسوله ﷺ.
التعليقات مغلقة.